قصة أصحاب الشمال
لقد بدأت القصة ـ أوّل ما بدأت به في وصف أصحاب الشمال ـ على هذا النحو:
﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ﴾
و التَرَف يعني: قمة الإشباع للحاجات الدنيوية .
و مع أنّ القصة تحدّثت فيما بَعد عن شخصيات أصحاب الشمال و رَبَطتهم بالسلوك المُنكِرِ لِليوم الآخر ، إلاّ أنّ التَرَفَ الدنيوي في حقيقة الأمر هو السبب الكامن وراء الإنكار . و هذا ما يفسّر ـ من حيث الدلالة الفنّية ـ صياغة مفهوم الترف بمثابة بداية قصصية قبل الحديث عن السلوك المنكر لليوم الآخر ، ممّا يعني أنّ التَرَف أو البحث عن إشباع الذات يقف وراء كلّ سلوك سلبي ، سواء أكان هذا السلوك إنكاراً فكرياً لليوم الآخر ، أو إيثاراً لمتاع الحياة الدنيا .
إنّ القاعد عن الجهاد بلا عذر مثلا مع إيمانه بمشروعيته ، يظلّ مؤثراً تَرفَ الحياة الدنيا بما يواكب هذا التَرفَ من تشبّث بالحياة ، و تدفّق حاجاته فيها .
كما أنّ الذي يمارس الخديعَة و الغشَّ و الكذبَ و الافتراءَ و التجريحَ ، . . .
و الكِبرَ و السيطرةَ و التعالُمَ ، و سوءَ الظنّ ، و تخريب العلاقة بين الأطراف ، و . . .
و . . . و . . . إلى آخره ، اُولئك جميعاً يجسّدون دون أدنى شك بحثاً عن تَرَفِ الحياة في متاعها العابر .
بيد أنّ قمّة الترف تظلّ متجسدة في الإنكار لليوم الآخر ، لكن دون أن يعني ذلك إعفاء المؤمنين باللّه من مسؤولية ايثارهم تَرفَ الحياة الدنيا في مفردات السلوك اليومي الذي يمارسونه .
و لعلّ الفارقية التي رسمتها القصةُ بين السابقين إلى الطاعة ، و بين أصحاب اليمين من جانب ، وصلة ذلك بدرجة التنازل عن الذات . . . عن الترف . . . ، ثمّ وصل ذلك بظاهرة التَرَفِ الذي بدأت به قصةُ أصحاب الشمال ، . . . لعلّ ذلك يوحي ـ بطريقة فنّية غير مباشرة ـ بضرورة إدراك مثل هذه الدلالة الفكرية التي تظلّ مؤشّراً إلى أنّ المعيار في السلوك الدنيوي ، هو: التنازل عن الذات ، و إلى أنّ البيئة الاُخروية تـتعامل مع الشخوص بقدر حجم التنازل عن الذات في المتاع الدنيوي العابر .
* * *
و حين نتّجه إلى متابعة بيئة النار ـ أعاذنا اللّهُ منها ـ نجد أنّ أصحاب الشمال ينتظمهم وصفٌ يقابل تماماً ، من حيث الايغال في العذاب الإيغال في الترف .
فقد تقدّمت القصةُ بكلّ مُشخّصات البيئة الحسّية التي يواجهها صاحبُها:
﴿وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ﴾
﴿فِي سَمُوم وَ حَمِيم وَ ظِلّ مِنْ يَحْمُوم﴾
فهناك ثلاثة مُثيرات أو منبّهاتٌ هي: سموم و حميم و يحموم ، أي: ريح و ماء و دخان .
فالحاسّة اللمسية التي تظلّ هي المادة التي يُصبّ العذاب عليها ، قد اقترنت بكلٍّ من حاستي السمع و البصر ، فضلا عن حاسة الشمّ ، الريح و الدخان . و يكفي أن يقترن هول الحريق بهول الريح اللافحة ، و بهول الدخان ، حتّى يتحسس صاحبها مدى ضخامة الهول الذي تـتحسّسه أربعة حواس: اللمس ، الشمّ ، البصر ، السمع .
يضاف إلى ذلك ، أنّ الحاسة الخامسة: الذوق ، قد خصّص لها النص شريحة خاصة ، عندما خاطب المكذّبين:
﴿لاَكِلُونَ مِنْ شَجَر مِنْ زَقُّوم فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾
و هذا فيما يتصل بالأكل . أمّا ما يتصل بالشرب:
﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾
إذن كلّ أجهزة الحسّ التي تـتسلم المنبّهات ، و تـترجمها إلى ردود فعل حركية و نفسيّة ، كلّ هذه الأجهزة تـتآزر في صَبِّ العذاب على صاحبها ، ممّا يكشف عن مدى الهول قبال مدى التَرَفِ ، أو مدى الفارق بين الطاعة و العصيان و الدرجات القائمة بينهما في السلوك الدنيوي ، و انسحابه على البيئة الاُخروية .
وبهذا ننتهي من الحديث عن البيئات الثلاث في سورة الواقعة ، وهي بيئة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، حيث لاحظنا من جانب الخطوط المشتركة بين قصص سورة «الواقعة» والسورة السابقة عليها «الرحمن» ، كما لاحظنا الخطوط المتباينة في ذلك ، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .