منتديات القناص الجزائري
اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى،
فيرجى الضغط على زر التسجيل،أما اذا كنت مسجل فضغط على زر الدخول ،وشكرا لاختيارك منتديات القناص الجزائري
منتديات القناص الجزائري
اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى،
فيرجى الضغط على زر التسجيل،أما اذا كنت مسجل فضغط على زر الدخول ،وشكرا لاختيارك منتديات القناص الجزائري
منتديات القناص الجزائري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات القناص الجزائري

عالم المعرفة
 
الرئيسيةالمنشوراتالتسجيلدخول
اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد واصحاب سيدنا محمد كما صليت وسلم على ابراهيم وال ابراهيم ..اللهم بارك على سيدنا محمد كما باركت على ابراهيم وال ابرااهيم انك حميد مجيد


 

 تحليل قصيدة المساء لخليل مطران

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
elmodir
المدير العام لمنتديات القناص الجزائري
المدير العام لمنتديات القناص الجزائري
elmodir


الاوسمة : 30
الهواية : تحليل قصيدة المساء لخليل مطران Sports10
العمل : تحليل قصيدة المساء لخليل مطران Collec10
الدولة : الجزائر
المزاج : تحليل قصيدة المساء لخليل مطران 8010
ذكر
عدد الرسائل : 796
العمر : 37
الدولة : حبيبتي الجزائر
تاريخ التسجيل : 02/03/2012

تحليل قصيدة المساء لخليل مطران Empty
مُساهمةموضوع: تحليل قصيدة المساء لخليل مطران   تحليل قصيدة المساء لخليل مطران Icon_minitimeالسبت أكتوبر 20, 2012 10:17 pm



تحليل قصيدة المساء لخليل مطران Xh897176

حمدا لمن بيده زمام الأمور،حمدا لمن هتك ظلمات الضلالة بالنبي العدناني،أنزل عليه القرآن ،بالهداية والبيان وأرسله بإيضاح البيان،فكشف مكنون المعاني ببديع بيانه وفصاحة لسانه إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون،فسبحانه تقدست أسماءه،وجلت صفاته.
وبعد:

تحليل قصيدة المساء لخليل مطران 0e304c4e6cfa05


مسآؤكم / صبآحكم ورود منثورة تغشى أروآحكم ...

مسآؤكم / صبآحكم أيآت فرح تستوطن أنفسكم ...

مســــــــاؤكم سعادة تثلج الصدور...
مســــــــاؤكم فرح يبهج القلوب...
مســــــــاؤكم حــــــب ، مسك، عطر، عنبر...

تحية طيبة للجميع ، ...


تحليل قصيدة المساء لخليل مطران

قصيدة “المساء” لخليل مطران نحن بصدد دراستها بالتكلّف في بعض القوافي ومتابعة البيان العربي والنثرية والانفعال لا الفعل “2″، ولذلك كلّه جاءت هذه القراءة لنص يتفق الدارسون، بعد دراسة الدكتور أدهم له “3″، على أنه محطة سابقة للتاريخ الذي اتفق عليه دارسونا على ولادة الرومانسية العربية بما يزيد على ثلاثين عاماً، ولذلك كلّه فإنه نصّ جدير بالقراءة وإعادة الإنتاج.
والقراءة النّصّية التأويلية قراءة معرفة بالنص وإعادة إنتاج لهذه المعرفة، فالنص رسالة تستغوينا قبل التهيؤ لملامستها، وهي رسالة بين النّاصّ/ الباثّ والمتلقي/ القارئ، وهذه الرسالة محصّنة بالدلالة السطحية التي تخفي تحتها الدلالة الضمنية، كما هي محصّنة بالرمز والعلامات، وبخاصة في النص الغنائي الوجداني، فمن الصعوبة بمكان القبض على المفاتيح كافة، والرسالة هنا تبثّ إحساسات، وقليلاً ماتحكي أو تسرد أو تخبر كما هي الحالة في النص القصصي أو الدرامي، ولذلك فإن على القارئ أن يتسلّح في المقاربة اللغوية بأسلحة وأدوات مختلفة عن تلك التي يستخدمها القارئ في مقاربته لنص من جنس آخر، فإذا لم يفعل ذلك فإن حالته لن تكون أفضل من حالة راكب جواد امرئ القيس:

داء ألـــــــــم فيـــــــــــه شفــــائي من صـــــــــبوتي فتضاعفت برحــــــــــائي
يا للضـــــــــعيفين استبدا بي وما في الـــــظلم مثل تحــــــــــــكم الضعــــــفاء
قلب أذابـــــته الصبـــابة والجوى وغلالــــــــــــــــــة رثــــــــــــــة من الأدواء
والروح بيــــــنهما نســـــــيم تنهد في حالي التصــــــويب و الصعــــــــــــــداء
والعقــــل كالمصباح يغشى نوره كــــــــــــــدري ويضعفه نضوب دمائـــــــي




المقطع الثاني :
إني أقـــــمت على التعلة بالمنى في غربة قـــــــــــــــالو تكـــــــــــــون دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها أيــــــــلطف النـــــــــــــــيران طيب هــــــواء
عبث طوافـــــــي في البلاد وعلة فـي عـــــــــــلة مــــــــــــــنفاي لاســــــتشفاء
متـــــفرد بصــــــــــبابتي, متفرد بكــــــــــــــــآبتي , متفــــــــــــــرد بعنـــائي

المقطع الثالث :
شاك الى البحر اضطراب خواطري فيجـــــــــــــيبني برياحـــــــــــه الهوجاء
ثاو على صخر أصـــــــــم وليت لي قلــــــــــــبا كهــــــــذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكـــــــــــــارهي ويفــــــــــــتها كالسقم في أعضـــــــــائي
والبحر خفاق الجوانـــــــــــب ضائق كمدا كصدري ساعة الإمســــــــــــــــــاء
تغـــشى البرية كـــــــــــــدرة وكأنه ا صــــــــــــــــــعدت الى عيني من أحشائي
والأفق معتكر قريح جفــــــــــــــــنه يغضي على الغمرات والأقـــــــــــــــــــذ اء
يا للغروب وما به من عـــــــــــــبرة لــــلمستهام وعبرة للرائــــــــــــــــــــ ــــــي
أوليس نزعا للنهار وصرعــــــــــة للشــــــــــــــــــــــ ـــمس بين مآتم الأضواء
أوليس طـــــــــــــمسا لليقين ومبعثا للشك بين غلائل الظـــــــــــــــــــ ـــــلماء ؟
أوليس محو للوجــــــــود الى مدى وإبـــادة لمعــــــــــــــــــــــ ـــــــالم الأشياء ؟
حتى يكون النور تجديدا لــــــــــها ويكون شبــــــــــــــــه البعث عود ذكـــــــــاء




المقطع الرابع :
ولقد ذكرتــــــــــــك والنهار مودع والقلــــــــــــــــــــ ــــــــب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاة نواظــــــــري كلمى كداميــــــــــــــــــــ ـــة السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيل مشعشعـــــا بسنى الشعــــــــــــــــــــا ع الغارب المترائي
والشمس في شـــــــفق يسيل نظاره فوق العقـــــــــــــــــــــ ـيق على درى سوداء
مرت خلال غمامتين تحــــــــــــدرا وتقطرت كالدمعـــــــــــــــــــ ــــة الحـــمراء
فكأن آخر دمعــــــــــــــــة للكون قد مزجت بآخر أدمعـــــي لرثــــــــــــــــــائي
وكأنني آنست يومــــــــــــي زائلا فــــــــــــــــــرأي ت في المرآة كيف مسائي


( ) الصبوة: شدّة الشوق والحبّ. البرحاء: اشتداد المرض
(2) الضعيفان: القلب والجسم.
(3) الصبابة: الحبّ الشديد. الغلالة: الثوب الرقيق، والمراد: الجسم
(4) التصويب: الانخفاض والهبوط.
(5) الكدر: مايخالط النفس من حزن.
(6) الرواعي: العيون التي ترعى. بلا إرعاء: بلا إبقاء عليه.
(7) التعلة: التلهي والتسلّي.
(8) الإمساء: الدخول في المساء.
(9) قريح: جريح. الغمرات: الشدائد. الأقذاء: الأوساخ.
(10) ذكاء: الشمس.
قراءة في شعرية النّص الرومانسي (قصيدة “المساء” لخليل مطران)
د.خليل الموسى
دراسة – من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000

يحقّ للمرء أن يتساءل: لماذا هذه القراءة الآن لنصّ شهير قيل فيه كثير، وسُوّدت فيه صفحات وصفحات، ومضى على زمن كتابته حوالي قرن (1902م)، وقد تناوله بعض الدارسين في غير مكان؟ فهل مثل هذا النص لايزال قابلاً للقراءة؟ وما النتائج التي يأمل القارئ الجديد أن يتوصّل إليها من خلال تفكيك هذا النص وإعادة تركيبه؟..
إنّ النّص الثري أولاً قابل لتعدّد القراءات واختلاف التأويل، بل هو يتجدّد في القراءة والاختلاف، وهو كالذهب الذي لايؤثر فيه أن يكون مطموراً تحت التراب، ثمّ إن الآراء التي قيلت في هذا النص أو ذاك لم تكن -غالباً- نتيجة لقراءة كليّة، ولذلك فإنها أقرب إلى الانطباعية منها إلى الآراء الموضوعية المستندة إلى منهج علمي رصين، ثمّ إنّ البلية التي أصابت نصوصنا في أن التنظير هيمن وطغى على الدراسات والتطبيق، حتى إنّ كثيراً من الدراسات المعاصرة التي يدعّي أصحابها فيها أنهم يميلون إلى التطبيق تتوقف في منتصف الطريق أو في ربعه لاهثة لتتكئ على رأي هنا ورأي هناك، وتسير مع هذه الآراء، حتى إن كان في وجهة مختلفة عن وجهة سيرها الأولى، تاركة النص وحده على قارعة الطريق. أما حالة النص في الدراسات النظرية فهي أسوأ وأمرّ، فلا ينطلق فيها الدارس من لغة النص ولا من لغة اللغة، وإنما هو يستدعي النصوص لتكون شاهداً على نظرية قرأها الدارس هنا أو هناك، فيأتي النص مصدّقاً وشاهداً على قضية لاناقة له فيها ولاجمل، ناهيك عن أنّ الدارس لايستشهد بالنص كاملاً، وإنما يجتزئ منه بيتاً أو بيتين أو مقطعاً ليكون شاهداً مناسباً على الموضوع أو النظرية أو الموقف المطروح، أو سوى ذلك.
ولذلك فإنّ لإعادة قراءة هذا النص مسوّغات، أولها أننا كنّا نستهلك النص ولا نُعيد إنتاجه، ونحن اليوم في عصر القراءة التأويلية نكمل بنية النص بالقراءة ونُغنيها، ونُعيد إنتاجها، وثانيها أن الدارس التقليدي كان قريباً من النظرية بعيداً عن النص، وكان التنظير في معظمه نقلاً عن إنتاج الآخر، فتراجعت القراءات التطبيقية، وظلّ النّص بعيداً عن الملامسة والمجاسدة، والاقتراب من النص، وملامسته، ومجاسدته، والولوج إلى أعماق بنيته عمل مختلف كلّ الاختلاف عما سبقه، وثالثها أن بعض الدراسين في بعض الدراسات التي يدّعون فيها أنها حداثية ومعاصرة سقطوا -بسبب شهوة التنظير والسرعة والنجومية واللامبالاة بالنّص وبالقارئ معاً- في بؤرة الأحكام السريعة على مذهب “خالف تعرف”، ومن ذلك الآراء المستعجلة التي قرّرها الشاعر أدونيس تقريراً لايستند إلى أيّ حجّة أو برهان، فاتهم القصيدة التي
يُطيرُ الغلامَ الخفَّ عن صهواتِهِ ويُلوي بأثوابِ العنيفِ المثقل “4″
ننتقل في قراءتنا للنص به من كائن لغوي إلى كائن شخصي حيّ، كائن يتقطر غواية وأنوثة، ولكنّه محصّن بالممانعة، ولذلك علينا أن نمتلك في توجهنا إليه وسيلة الغواية للغوص في مكنوناته ودهاليزه وعتمته، ولملامسة مستوياته وطبقاته الدلالية، وفي قراءتنا هدف، وهو تفكيك الدال واستنطاق دلالاته وعلاقاته الشبكية، ويتمّ بذلك التفاعل والمجاسدة بين النص والقارئ من خلال إنتاج جديد يؤكّد شعريته.
ويستوقفنا في العنوان مصطلحا الشعرية والرومانسية:
الشعرية “POITICITة” علم موضوعه الشعر، أو هي: “كلّ نظرية متصلة بالأدب” “5″، وهي “نظام نظري” “6″، وإذا كانت الشعرية علماً فإنها تستقي قوانينها من الأعمال الخالدة، كما فعل أرسطو في “فنّ الشعر” أكثر مما تستقي قوانينها من الأعمال العادية، “ويكون موضوع الشعرية مفضّلاً بالأعمال المضمرة أكثر منها في الأعمال الواقعية” “7″.
ولكنّ مصطلح الشعرية نسبي، وهو ذو عمر طويل بالقياس إلى سواه من المصطلحات، ولذلك فإن دلالته متغيّرة بين عصر وآخر، ومكان وآخر، وناقد وآخر، ويستدعي هذا التغيير أحياناً أن تكون دلالته على طرفي نقيض، فالشعرية قواعد تستنبط من الشعر نفسه، ومفهوم الشعر متبدّل في موضوعاته وحجمه وشكله وأجناسه عند الأمم بتغيّر الظروف والمعطيات المختلفة، فالشعرية عند أرسطو محاكاة، وتنحصر المحاكاة في أجناس شعرية ثلاثة عنده: المأساة- الملهاة- الملحمة، وهي تتلخّص في الشعر الموضوعي، ولذلك ذهب أرسطو إلى أن الشاعر “ينبغي أن يكون أولاً صانع القصص قبل أن يكون صانع الأوزان، لأنه يكون شاعراً بسبب مايحدثه في المحاكاة، وهو إنما يحاكي الأفعال” “8″، ولذلك فإنّ أرسطو لايُقيم وزناً للشعر الغنائي في شعريته، وذلك لأن عصره هو عصر الشعر الموضوعي بامتياز.
لكنّ مصطلح الشعرية تحوّل تحوّلاً جذرياً في المذهب الرومانسي، فاستُبدلت الشعبية بالنبل، والذاتية بالموضوعية، والداخل بالخارج، والشعر الغنائي بالشعر الموضوعي، فاتجه الشعر إلى مخاطبة القلب، وغدت لغته لغة العاطفة والوجدان، وصار تعبيراً بعد أن كان محاكاة.
والرومانسية “ROMANTISME” مذهب أدبي تجديدي في جميع الفنون، ثار على المذهب الكلاسيكي المتشبث بالأدب الإغريقي وقواعده، وهي تدفع الإنسان نحو الطبيعة وإيثار الحسّ والعاطفة، وتفضّلهما على العقل والمنطق، وقد أولت الذات الفردية مزيداً من الاهتمام، وذهبت إلى أن الشعر إلهام، والشاعر عبقري الخيال والأحلام والحبّ، واهتم الرومانسيون بالشعر الغنائي أكثر من اهتمامهم بالشعر الموضوعي “9″.
2ً- في قراءة النّص:
أ-المحور الأفقي:
1-المستوى الإيقاعي: علينا أن نشير أولاً إلى أن النّص الذي نحن بصدده قد اتخذ من البحر الكامل هيكلاً إيقاعيّاً له، وهذا الهيكل صالح، قبل أن تدخل القصيدة في التشكيل والنسج والتلوّن بالتجربة الشعرية، لأن يكون ذا موضوعات مختلفة ودلالات مختلفة؛ فهو كاللوحة بلا لون، واللفظ في المعجم، يحتاج إلى تجربة جديدة ليحيا بها من خلال السياق الذي يمنح هذا الهيكل دماً جديداً وجسداً جديداً، وهنا جاء صوت الشاعر مطران، لينفخ في هذا البحر حياة جديدة، ولينشد من خلاله تجربته التي عاناها.
ودور الإيقاع في التكرار المتساوق المطّرد الذي تقدّمه تفعيلات البحر الكامل بين بيت وآخر كدور النبض في الجسد الحيّ، فالشاعر -هنا- يتّكئ على القافية من خلال حرف الروي وحركته ليندفع إلى البيت الذي يليه، كالنبض في القلب الحيّ الذي يتكئ على استمرار تدفق الدماء في الشرايين، وكالموجة التي تتكئ على سابقتها لتندفع من جديد، وتُعيد التجربة التي كانت، فالحضور يخفي تحت طيّاته وفي ثناياه غياباً، والغياب يتجلّى في الحضور، والسابق في اللاحق، ويتضمّن اللاّحق في جسديته وتجسيده السابق، وإذا كان الماضي في الحاضر، وكان الحاضر في الماضي، فهذا دليل أوّليّ على أن الشكل الذي تتَبنْيَنُ (STRUCTURALITة) فيه القصيدة عضوي، فالتجربة الصاهرة تتجلّى في لحظات القول، كما تتجلّى في لحظات الصمت في إيقاعية التفعيلات وتكرارها وفي لحظات الصمت القائمة في أمكنة الفراغات التي تفصل بين بيت وبيت أو بين شطرة وأخرى في البيت الواحد، وليست لحظة الصمت سوى لحظة يستقرّ فيها النغم الإيقاعي لحظة، لينهض من جديد في حركته، ويواصل التجربة الواحدة في رؤاها ونسيجها إلى لحظة الاستقرار الأخير والتبليغ. وهكذا يكون ارتباط التفعيلة بالتفعيلة، والبيت بالبيت، والمقطع بالمقطع، وليس هذا الارتباط تشكيلاً صوتيّاً وحسب، وإنما هو ذو صلة بالدلالات التي تظهر في البنية السطحية والدلالات التي تخفيها تلك البنية أوتستبطنها، فالإيقاع الراكد يخلق الركود في النفس الإنسانية، ويشكّل الإيقاع السريع الحركات الانفعالية ويدفعها إلى التوتر، سواء أكانت حزينة أو راقصة، ثم إن التساوق في التفعيلات المتكررة في البيت الواحد يؤدي إلى التقارب بين الدلالات، وهو يقدّم، بشكل أو بآخر، دلالة رتيبة تعمق التجربة التي عاناها الشاعر، ولكن ليست هذه التفعيلات المتكررة الرتيبة سوى البنية السطحية التي تتجلّى لنا من خلال الأبيات بتراتبها وتساوقها وتماثلها، وهي تخفي في إيقاعيتها المستبطنة توتّراً نفسيّاً حادّاً تشير إليه لحظات الصمت من جهة والبؤر التركيبية الدالّة من جهة أخرى.
وثمة قيمة تعبيرية للصوت، ولانقصد بذلك قصدية اللغة كما عند الإغريق واللاتين وابن جنّي في “الخصائص”، وإنما نرمي إلى أنّ تراكم أصوات معيّنة أكثر من غيرها في البيت أو المقطع أو القصيدة يُشيع في النص مناخاً محدّداً، فتشابه البنية الصوتية يمثّل بنية نفسية موازية ومنسجمة ومتشابهة تستهدف تبليغ الرسالة بوساطة التكرار من خلال الترديد المتصل (الجمل المتشابهة المتقاربة مكانيّاً) أو المنفصل، وإذا توقفنا عند بعض العبارات الإيقاعية في هذا النص وجدنا أن التماثل الإيقاعي المتصل يهيمن على كثير من جمله الموسيقية، ومن أمثلة ذلك:
لم أنعم كذي جهل/ لم أغنم كذي عقل.
لاينبغي أن يُفهم هذا التشاكل التركيبي النحوي الذي يُنتج الإيقاع على أنه صناعة وحسب ولكنّه صناعة هادفة إلى تبليغ الرسالة بوساطة تعادل التراكيب النحوية أو إعادتها من خلال ألفاظ ذات إيقاعات متساوية تماماً، وقد نجد تماثلاً صوتيّاً متقارباً بين الأشطر المتجاورة في مثل قوله:
1-ياكوكباً من يهتدي بضيائه /يامورداً يسقي الورودَ سرابُهُ/ يازهرةً تُحيي رواعي حسنها.
2-نعمَ الضلالة حيث تؤنس مقلتي/ نعم الشّفاء إذا رويت برشفة/ نعم الحياة إذا قضيتُ بنشقة.
3-متفرّدٌ بصبابتي/ متفرِّد بكآبتي/ متفرِّدٌ بعنائي.
4-شاكٍ إلى البحر/ ثاوٍ على صخر.
5-أوليسَ نزعاً للنهار/ أوليس طمساً لليقين/ أوليس محواً للوجود.
إنّ الشاعر حرص على المساواة والتوازن في التعامل الإيقاعي بين الوحدات المجاورة، فكان ترديده متّصلاً، وإذا كان الترديد هنا شبيهاً بالتكرار، وهو سمة من أهمّ سمات الشعرية، فإنّ الشاعر لايقول، وإنما هناك بؤر لفظية أو تركيبية أو بنى مقطعية “STRUCTURES SYLLABIQUES” هي التي تقول، وهي التي تتمركز في واجهة النص وخلفيته، فتحدث المباطنة “INTةRIORISATION”، وتتواشج اللغة في اللغة من خلال إيلاج البيت بالبيت، والمقطع بالمقطع وتواشجهما، إلى أن يتماهيا تماهياً جسدياً، فيكون هذا التماثل والتماهي الصوتي المتصل نتيجة من نتائج تماثل الدلالات المتصلة في البيت أو المقطع وتواشجها، أو كما يقول جان كوهن: “تبقى المماثلة الوزنية والمماثلة الإيقاعية دليلين طبيعيين للمماثلة المعنوية” “10″.
والقافية في هذا النص مكوّنة من متحرّك فساكن ومتحرّك فساكن، وقبل حركة حرف الروي ألف مدّ، يمتدّ من خلالها الصوت، ليقع بعدها من خلال حركة الروي (الهمزة المكسورة الممدود ماقبلها)، لتشير إلى السقوط إلى أسفل مع كلّ بيت، وكأنّ هذه الأبيات في حركتها الانكسارية المتكررة شبيهة بالحركة التي تشكّلها الأمواج، تنهض لتسقط، وهكذا، وكأنها تشير أيضاً إلى أنّ كلّ شيء في الحياة لابدّ من أن يصل إلى القرار والسقوط والنهاية، وهذا ما تقابله تجربة الشاعر مع حبيبته، وهي تجربة متصلة بحياة الشاعر كما تتحدّث الأبيات، فهي التي تسبّب له الأحزان، وهذه الأحزان المتراكمة تتغلّب على جسد الشاعر الضعيف، وتتكرّر الهاوية والحفرة عند كلّ رويّ في الأبيات الأربعين التي يتشكّل منها النص، ولكنّ الهاوية التي تصل إليها تجربة الشاعر ممثّلة بهذه الإيقاعية الرمزية، وهي بعيدة عن السرعة والعنف، وكأن النفس التي تتألم تحتضر على نار خفيفة، وتوترها العنيف استسلامي، فالنفس سجينة تختنق شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى النهاية، وهذا مايثبت أن التشكيل الإيقاعي في هذا النص هو تشكيل نفسي قبل أن يكون تشكيلاً صوتيّاً، أو كما يقول جان كوهن في علاقة القافية بالمعنى: “الحقيقة أنّ القافية ليست أداة، وليست وسيلة متعلّقة بشيء آخر، ولكنها عامل مستقلّ، أوصورة تضاف إلى غيرها، وهي مثل هذه الصور الأخيرة لاتبدد وظيفتها الحقيقية إلاّ إذا وُضعت في علاقة مع المعنى” “11″.
2-المستوى المعجمي: تحتاج معرفة الخطاب الشعري إلى القبض على دلالته ورصد شبكة العلاقات المتداخلة التي تكوّن جمالياته، وتُخفيها عن القارئ، فالدلالة في النص تبين وتخفى سريعاً، إنه يؤمئ ويوحي وينتشر ويلمع، ولكنّه لايشير، وهذه الحركية بين الخفاء والتجلّي، وبين التجلّي والخفاء، سمة من سمات النّص المفتوح الثري، وهي التي تفعل فعلها في ذهنية القارئ، وتدفعه إلى المقاربة والمجاسدة والإنتاج، وهي فاعلية إحضار الغائب واستنطاق المسكوت عنه، و “لتحقّق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة في وعي القارئ، ثم يعثر عليها في الوقت نفسه” “12″، ويأتي -هنا- دور المعجم الفنّي ليسهم في استنطاق الدال الذي يسبح في فضاء شاسع، ويخلق فضاءاته الموحية، ولهذا لابدّ من اللجوء إلى التزامني “SYNCHRONIE” لإيقاف هذا الجامح الراكض كجواد امرئ القيس الأسطوري في كلّ اتجاه، للكشف عنه في أنساقه وحقوله الدلالية التي تشعّ منها وتنطلق وتتكسّر الدلالات اللاّنهائية، وتتشظّى في الآفاق والأبعاد والمستويات.
وإذا كانت الألفاظ علامات فإنّ القارئ ينفذ إلى الخطاب الشعري عبر مناطقه الرخوة التي تشكّل هذه الألفاظ العلامات، فالعلامة اللغوية وحدة أساسية في بنية الخطاب، ولذلك فإنّ المقاربات النقدية المعاصرة ترتكن في فضّ دلالة النصوص والوصول إلى بنيتها التحتية إلى هذا المستوى، ومن هنا تتمتّع دراسة المستوى المعجمي في نصّ ما بأهمية في استنطاقه ومعرفته.
ويُقصد بالمستوى المعجمي مجموعة الشفرات والإشارات والعلامات اللغوية التي تشكّل بنية نصّ ما تشكيلاً جديداً من خلال سياق يشحن هذه الألفاظ المعجمية بمجموعة من الدلالات السياقية التي يتفرّد بها النص الشعري، وهي التي تشكّل حقوله الدلالية “CHAMPS SةMANTIQUES” التي تُعدّ البنى الصغرى لبنية النص الكبرى (المضمون الإجمالي للنص أو كليته ووحدته).
يتألف هذا النص الشعري من أربعين بيتاً، تتوزّع ألفاظه كما يلي: الأسماء 210، منها 93 اسماً نكرة و117 اسماً معرفة، والأفعال 53 فعلاً، منها 26 فعلاً ماضياً، و27 فعلاً مضارعاً. والقراءة الإحصائية تثبت هيمنة الاسم على الفعل والمعرفة على النكرة، كما تهيمن الأفعال الماضية والمضارعة هيمنة تامة (ليس في النص الشعري أفعال أمر)، وذلك ليؤكّد الشاعر أنّ التجربة التي يعانيها يقينية، وأن مصيره حتمي، ولا أمل له في عودة الحبيبة عما عزمت عليه، ولذلك استخدم هذه الأسماء وهذه الأفعال، ليشير إلى حالة ماضية حاضرة من خلال الوصف والتقرير.
وتُشير القراءة الكشفية للمستوى المعجمي إلى أن هذا المستوى ينفتح على محورين كبيرين يكوّنان المفاصل الأساسية لهذا النص، وينفتح كل محور منهما على مجموعة من المعاجم الفنّية الخاصة به.
-المحور الأول: محور المرض وهجران الحبيبة والحزن والشقاء والعزلة الاغترابية والموت، وماله صلة بهذه المعاني.
-المحور الثاني: محور الصحة والشفاء والحياة، وماله صلة بهذه المعاني.
يمثّل المحور الأول قطب النص الشعري وبؤرته، فتنضوي تحته عدة محاور فرعية، تصبّ كلها في محور الموت، وإذا ضربنا لذلك مثلاً بالبنية الصغرى التالية: “قلبٌ أذابته الصبابة والجوى”، وجدنا أن الإذابة تتضمّن في السياق المرض والهجران والحزن والشقاء والعزلة والاغتراب والموت معاً، فالقلب ليس سليماً، فقد أُصيب بحادث ما غيّر في مسيرته وحركته وطبيعته، وهذا الحدث هو هجران الحبيبة، وقد أفضى الهجران إلى الحزن والشقاء والعزلة والاغتراب الذي يعيش فيه الشاعر، وهذا ما يُفضي إلى الذوبان، وهو حالة من التلاشي والاختفاء والموت (ذوبان الشمعة- الملح- السّكّر.. إلخ)، ولكنّ هذا الذوبان أو التلاشي حاضر في بنية النص التحتية كحضور السّكر أو الملح في الماء أو الطعام..
ويتشكّل المحور الأول من معاجم فنّية متداخلة، أهمّها:
-المعجم الفنّي الأول: المرض ومافي حكمه:
داءٌ ألمّ/ غلالةٌ رثّت من الأدواء/ يفتُّها كالسقم في أعضائي.
-المعجم الفني الثاني: الهجران وما في حكمه:
قلبٌ أذابته الصبابة والجوى/ هل مسكةٌ في البعد للحوباء.
-المعجم الفني الثالث: العزلة والاغتراب ومافي حكمهما:
عبث طوافي في البلاد/ علّة في علّة منفاي لاستشفاء/ متفرّد بصبابتي/ متفرّد بكآبتي/ متفرّد بعنائي/ شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري/ ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ/ صدري ساعة الإمساء.
-المعجم الفني الرابع: الحزن والشقاء ومافي حكمهما:
الدمع من جفني يسيل مشعشعاً/ تقطّرت كالدمعة الحمراء/ آخر أدمعي لرثائي/ تضاعفت برحائي/ استبّدا بي/ قلبٌ أذابته الصبابة والجوى/ والروح بينهما نسيم تنهّد/ كُتب الشقاء على الورى.
-المعجم الفني الخامس: الموت ومافي حكمه:
يضعفه نضوب دمائي/ أن يهلكوا بظماء/ تميت ناشقها بلا إرعاء/ قضيتُ بنشقة.
إنّ هذه المعاجم الفنية الخمسة تصبّ في المحور الأول الذي يدلّ إلى العزلة والاغتراب والحزن والشقاء والموت، وكلّ ماله صلة بهذه الدلالات، وهو محور يهيمن -كما سنرى- على المحور الثاني الذي يمثّل الوفاء والحبّ والحياة، ويطغى على بنية النص، ولذلك فإنّ مناخاً في الحزن الرومانسي خيّم على معجم الشاعر الفنّي.
المحور الثاني: العافية والصحة والحبّ والوفاء والحياة والسعادة. والمعجم الفنّي في هذا المحور واحد، وهو الشفاء والصحة:
خِلتُ فيه شفائي/ نعم الشفاء/ غربة تكون دوائي.
يتجلّى لنا من ملاحظة المحورين السابقين هيمنة معجمية المحور الأول على معجمية المحور الثاني في النص، وينفتح هذا المحور على فضاء حركي يتسع، ويمتدّ شيئاً فشيئاً ليشكّل فضاء الحزن والموت، حتى جاء مجسّداً لدلالات تعذيب الذات (المازوخية) إلى حدّ تغييبها عن دور الفعل والفاعلية، ولذلك فإن المحور الثاني جاء فقيراً في معاجمه الفنية، حتى إنه يكاد لايذكر بالقياس إلى المعاجم الفنية في المحور الأول، وقد نذهب إلى حدّ القول: إنّ دلالات المحور الثاني تعكس في دلالتها المغيّبة دلالات المحور الأول في وظيفتها، وتبثّها في النص الشعري، فالشفاء الذي جاء في البيت الأول موهوم، لارتباطه بالفعل “خلت”، وهو هنا من أفعال الظنّ، وهو في البيت السادس عشر في حالة الرجاء والتمني، وليس في حالة التحقّق، هو رغبة تظلّ خارج التاريخ مالم تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود الفعلي عبر الفعل الإنساني، هو شفاء الحلم والرغبة، ولكنه ليس شفاء الحقيقة، فالواقع يشكّل سدّاً منيعاً يحول دون تحقيق هذا الشفاء، أو هو على حدّ قول المتنبي:
ماكلُّ مايتمنّى المرءُ يدرِركُهُ تجري الرّياحُ بمالا تشتهي السّفُنُ “13″

ويقترن الشفاء في البيت الثامن عشر بالغربة والمنفى، ومع أن الشاعر يُنشد هذا الشفاء ويترقبه فإنه، في الوقت ذاته، يراه متعذر الوقوع، ولذلك فإنه يستسلم لإرادة الحبيبة الطاغية التي تسلّمه إلى الدموع والأحزان والغروب النفسي والمساء الشخصي.
3-المستوى التركيبي: دخل الشاعر إلى القصيدة في لحظات من التصدّع النفسي تحت وطأة الهزيمة في الحبّ والحياة، ولذلك فإنه أخذ يُعيد بناء اللغة لتجاري تجربته وضوحاً ودلالة، وإذا كان المستوى التركيبي يعني التركيب النحوي والتركيب البلاغي، فإنّ الوقوف عند الأول منهما سيكون سريعاً، لأن الملاحظ على المستوى النحوي أنه بعيد عن التعقيد والانزياح، وقد ظلّت الجملة تتحرّك ضمن خصائص الجملة العربية المألوفة، جارية على مجراها، بسيطة، قليلة التقديم والتأخير، لاتعقيد ولا التواء فيها.
أما التركيب البلاغي فهو تحوّلي استبدالي، فالدلالات تتحرّك من الصورة الأمامية إلى الخلفية لتتناغم مع السياق في وظيفته الكليّة، فإذا كانت وظيفة الحبّ تتناغم والحياة نفسها، فإنّها في هذا الخطاب تتحوّل إلى نقيضها الموت، وتتجلّى في الموت الشخصي والموت الفني في المقطع الثاني إذ أضاع الشاعر بالحبّ عمريه: عمره الشخصي وعمره الإبداعي، ويُستهدف عادة من الاستمتاع بجمال الطبيعة التنعّم والراحة، والاستجمام والمعرفة، ولكن الاستمتاع بجمال الطبيعة في المقطع الرابع (طيب الهواء- حسن المقام- الطواف في البلدان- الجلوس إلى البحر… إلخ) يتحوّل انزياحياً إلى مصدر من مصادر الغمّ والكدر، ويلجأ المرء إلى فراشه في المساء ليرتاح من عناء يوم طويل، وينسى معاناته، وماجرى له من متاعب وعقبات، وماواجهه من كدر وغمّ، لكنّ الدلالة في البيت السادس والعشرين تتحوّل أيضاً انزياحياً إلى نقيضها، فإنّ الغمّ يتزايد في وقت الراحة المساء، فإذا هو وقت التذكر والحسرات والتأوهات، وإذا الفراش الوثير يتحوّل هو الآخر إلى أشواك تقضّ مضجع الشاعر.
ثمة صورة جاءت في نهاية النص تشعّ بالدلالات، وتستحقّ التحليل، وهي: “فرأيتُ في المرآة كيف مسائي”، فالتركيب النحوي فيها مألوف: فعل وفاعل وجار ومجرور ثم جملة اسمية في موقع المفعولية، ولكن الصورة تتكوّن من ألفاظ يمكننا أن نتوقف عند لفظتين منها: المرآة- مسائي، لتحليلهما من جهة الصورة، فالمرآة- حقيقة- لاتوضّح صورة المساء، فهو ظلمة، ولاتظهر الظلمة في المرآة، وهي تحتاج إلى النور للإظهار، ولذلك فإنّ الشاعر استخدمها استخداماً انزياحيّاً، فنقل مدلولها المعجمي الأمامي إلى مدلولها الخلفي الشعري بوساطة السّياق.
أجرى الشاعر عملية استبدالية لتوليد الدلالات الجديدة من ألفاظ مألوفة، أو كما يقول جان كوهن: “المنافرة IMPERTINENCE” خرق لقانون الكلام، وهي تتحدّد على المستوى السياقي “PLAN SYNTAGMATIQUE”، والاستعارة خرق لقانون اللغة، وهي تتحدّد على المستوى الاستبدالي “PLAN PARODIGMATIQUE” “14″.
ثم هو يُقيم هذه الخطاطة ليؤكد أن الاستعارة انزياح استبدالي:
الدال
المدلول 1+
المدلول 2 السياق “15″.
وبناءً على ذلك فإنّ لفظة “المرآة” غنيّة بإشعاعاتها وإيحاءاتها، ومنها الطبيعة التي تمثّلناها في المقطع الرابع من بحر هائج مضطرب عاصف شاكٍ برياحه الهوجاء التي تعبّر عن شكاية الشاعر نفسه، ومنها هذا الفضاء الضيّق الخانق الذي يكادُ يطبق هو الآخر على صدر الشاعر، وكأنه ليل امرئ القيس أو النابغة الذبياني، فالبحر المتسع الأرجاء والآفاق ضائق كصدر الشاعر، والهموم تهيمن على عينيّ الشاعر وتحجب عنه كلّ جمالية في الطبيعة، وبخاصة حين يأوي إلى فراشه ونفسه ساعة الإمساء، وهذه الغمة التي تغشى البرية هي غمّة الشاعر النفسية، والأفق معتكر، قريح جفنه، ضائق، مدمّى.. إلخ، فلفظة المرآة انتشارية في النص، فهي مرآة الرمز، وهي مرآة الطبيعة، والطبيعة هي مرآة الشاعر، وهما متشاكلان، فالمرآة ذات وظيفة معطَّلة، والطبيعة أيضاً ذات وظيفة معطّلة، فجمالية البحر والشاطئ والفضاء لا تستطيع أن تخفّف من أحزان الشاعر، وإنما هي تذكّره بها، والطواف في البلدان مصدر غمّ هو الآخر، ولذلك كانت المرآة تمثّل تجربة الشاعر التي تتضمّن هذه الدلالات وسواها.
التجربة الشخصية
Ý
الطبيعة Þ المرآة Ü الحياة والحبّ

وأما لفظة “مسائي” فهي تركيب إسنادي، أسند فيه الشاعر لفظة “مساء” إلى ضمير مفرد المتكلّم، وهذا مايشكّل انزياحاً دلاليّاً، فالمساء -حقيقة- لفظة عامة تخصّ الطبيعة، وتدلّ إلى وقت محدّد، ولكن الشاعر نقلها من الدلالة الطبيعية إلى مساء خاصّ به، كما فعل من قبل امرؤ القيس بليله الخاص به:
وليلٍ كموج البحرِ أرخى سدولَهُ (عليَّ)، بأنواع الهموم ليبتلي “16″

ليس هذا المساء حقيقياً، فياء المتكلم التي أُضيف إليها، تحرفه عن المعنى المعجمي، وكأننا إزاء لفظة غير عادية، فنحن لاندخل مع الشاعر إلى مسائه إلاّ بصفتنا متلقّين لتجربته، وتشكّل اللفظة صورتين: أمامية وخلفية، تمثّل الصورة الأمامية المساء الحقيقي، وهو المدلول الأول غير المقصود لذاته، وتمثّل الصورة الخلفية مساء الشاعر أو حبّه أو سعادته أو عمره المنتهي من جراء التجربة الشخصية التي مرّ بها.
والمساء زمن يأتي بعده زمن آخر، ويحمل هذا الآخر الفجر والصباح والظهيرة، ولكنّ إضافة ياء المتكلم إليه جعلته مساء عقيماً، وحالت دون استبدال هذا الزمن بزمن آخر، أو حالت دون ولادة ذلك الزمن، وجعلت المساء زمناً بلا زمان آخر، أو زمناً متوقفاً عن الجريان، ثمّ إنّ ورود هذه اللفظة في آخر القصيدة جعل المساء نهاية الزمان ووقوف عجلاته أو تحطّمها، وكأنها القرار الأخير الذي انتهى إليه حبّ الشاعر وسعادته وعمره ونصيبه من الحياة، أو القرار الذي وقف عليه الإيقاع الموسيقي في لحظة الصمت الأخيرة، ليدع الصمت يتكلّم بما يراه ملائماً، أو يقول مالم يقله الشاعر. وهكذا ترك الشاعر نهاية القصيدة مفتوحة على أبعاد لانهائية من الدلالات التي تتوالد وتتناسل، ونقل من خلال التركيب الانزياحي الدلالة المرهونة بالواقع إلى دلالة محرّرة منه.
ب- المحور العمودي:
1-المستوى الدلالي: إن مستويات النص السابقة، الإيقاعي، المعجمي، التركيبي تتقاطع وتتداخل لتشكيل بنية النص الكبرى، أو الخلفية للصورة الكليّة العميقة، وعلى القراءة النافذة أن تسبر تقاطعات النص، وتكشف، وتُنير ماحاول الباثّ أن يحجبه في الزوايا المخفية من بنية النص، ولذلك فإننا سنحاول أن نتلمّس دلالة النص الكبرى في قراءة العنوان والمحاور الدلالية وعلاقاتها.
A- العنوان: كانت القصيدة إلى أواخر القرن الماضي تُسمّى عادة بحرف الروي، فنقول همزية البارودي أو بائيته أو تائيته أو يائيته، ومايميّز قصيدة من أخرى أنها قيلت في مديح فلان أو رثاء فلان، أو أي مناسبة أخرى، وهذا يعني أنّ مايميّزها هو خارج على بنيتها، لكنّ الأمر مختلف في هذا النص الذي يعود زمن نظمه إلى بداية هذا القرن (1902م)، فقد أطلق عليه الشاعر أو سماه أو عنونه باسم “المساء”، فهل جاءت هذه التسمية اعتباطية، أو أنّ اختيار الشاعر للعنوان كان متطابقاً مع النّص؟…
يمدّنا العنوان بزاد ثمين لتفكيك النص وقراءته، فهو المفتاح الأهمّ بين مفاتيح الخطاب الشعري، وهو المحور الذي يحدّد هويّة النّص، وتدور حوله الدلالات، وتتعالق به، وهو بمكانة الرأس من الجسد، والعنوان في أيّ نصّ لايأتي مجانيّاً أو اعتباطياً، فهو ليس كالاسم في الإنسان، لأن الإنسان يسمى بعد ولادته مباشرة، وربّما لايكون الاسم دالاً عليه كلّ الدلالة، فقد نسمي مولوداً ذكراً فريداً أو ذكياً أو كاملاً أو صالحاً أو حسناً، ولكن النتيجة قد تخيّب ظنّنا وآمالنا، وقد تكون أن فريداً لايكون فريداً، وأن ذكياً لايكون ذكيّاً، وأن صالحاً غير صالح، وكاملاً غير كامل وحسناً غير حسن، فالاسم، هنا، اعتباطي احتمالي، ولكنّ الأمر في النصوص الأدبية مختلف، فالنّص يسمى بعد إنتاجه إنتاجاً نهائياً وبعد أن يصبح قابلاً للاستهلاك، فعلى الاسم أن يكون صالحاً للمسمّى دالاً عليه، ولذلك فإنّ العنوان -هنا- بمكانة الرأس من الجسد لا بمكانة الاسم من المسمّى المولود، والعلاقة بين العنوان والنص رحمية، ومادام للعنوان في النص الأدبي هذه المكانة فإن ماتحت العنوان يكون دالاً عليه، ويكون الرأس (العنوان) متصلاً بالجسد بقنوات وشرايين.
وإذا عدنا إلى العنوان “المساء” وجدناه محدّداً بـ “ال” التعريف، وهذا يدلّ إلى أنّ الشاعر لايريد أيّ مساء، وإنما يقصد مساءً خاصّاً بيوم محدد أو بشخص محدّد، ولكنّ السياق لايشير إلى يوم محدّد في تاريخ محدّد، وإنما عرّفه الشاعر هذا التعريف ليظلّ المساء المحدّد قريباً من اللاّتحديد، أو هو ترك التحديد للسياق، ويعني التعريف أنّ ماجاء في النص هو كلّ ماتعرفه الذات الناطقة، ولذلك فإنّ الحركة السوداوية أخذت منحىً يقينياً من خلال السرد والإحساسات، فهذه الذات تدرك سلفاً النتيجة التي ستؤول إليها، ولذلك فإنّها تتكلّم، وفي كلامها معرفة ونبوءة.
والمساء -لغة- وقت المساء، ولكنّ السياق يبيّن أن هذا المعنى غير مقصود لذاته، ويبيّن الاتجاه العام في دلالات النص الصراع بين عاطفتين تتنازعان مخيّلة الشاعر ونسيج النص: الألم بسبب المرض، والألم بسبب هجران الحبيبة، وتجري الدلالتان في تيارين يتشابكان حيناً ويتداخلان حيناً إلى أن تهيمن عاطفة ألم الهجران على العاطفة الأولى، ثمّ تخفيها إخفاءً تامّاً من دالاّت النّص، ليتحوّل بعد ذلك المناخ إلى رثاء شخصي، وإذا “ال” التعريف في “المساء” تنتقل من البداية إلى النهاية، لتتحوّل إلى ياء المتكلّم “مسائي” في البيت الأخير، فإذا الشاعر يحدّد الدلالة المقصودة، ليفتح أمامنا الآفاق البعيدة على ماتبثّه هذه اللفظة الانزياحية من مجالات، كالمصير، والنهاية، والموت الذاتي والإبداعي.
B- المحاور الدلالية وعلاقاتها: تتشكّل القصيدة من ستة مقاطع، ويتشكّل كلّ مقطع من مجموعة من الدوال والمتتاليات المتلاحقة ذات الدلالات المتعددة التي تتنافر وتتباعد، لتتقارب فيما بعد، وتؤدي وظيفة واحدة، فالمقطع الثالث -مثلاً- يتكوّن من ثمانية أبيات، يبدؤها الشاعر بثنائية من الدلالات المتقابلة، فالشاعر يطلق على حبيبته صفات محبّبة (كوكب- مورد- زهرة)، وهي صفات تتضمّن في ذاتها أساسيات الحياة، فالكوكب مصدر النور، والنور مصدر المعرفة والحياة والجمال، وليست الشمس سوى كوكب من الكواكب، ولاتكون الحياة بلا شمس، والمورد المنبع وأصل الماء، والماء أساسي للحياة، ومن دونه يتعذّر العيش، إضافة إلى أن الماء مصدر جمالي آخر، وهو مصدر لاغنى عنه للحياة في الإنسان والحيوان والنبات، والزهرة مصدر آخر من مصادر الجمال والرقة، والعطاء، وهي مصدر من مصادر السعادة التي تبثّها الزهرة في عيون من يستنشق عبيرها أو يستمتع بجمال طلعتها، والحبيبة تجمع هذه الصفات معاً، وتستبطنها، ولكن الشاعر يصف في الوقت ذاته أنوار هذا الكوكب بالضلالية درباً وعقلاً، ويصف ماء المورد بالسّراب الخادع، ويصف عبير الزهرة بالسمّ الزعاف، فالمقطع يقدّم لمتلقّيه هذه الصفات المحبّبة، ثمّ ينفيها، يرسمها ويمحوها، يبيّن أنّ العاشق لايعيش أيامه السعيدة دون أن يعكّر صفوها الزمن، ويكشف أن الوصول إلى السعادة المطلقة ضرب من الوهم، فالعشق مصدر من مصادر السعادة والحبّ والتشوّق إلى الجمال، ولكنه يحمل في داخله الشقاء والدموع والأحزان، فكل شيء يحمل نقيضه في ذاته، فالحياة في الموت، والموت في الحياة، والغدر في الوفاء، وليس هذا القدر من الجمال الساطع الذي تتمتّع به الحبيبة سوى صورة عن الغدر الكامن في أعماقها، فهي أنثى مراوغة مخادعة غادرة، همّها أن تهيمن على من يحبّها، فإذا استمالت قلبه وتملّكت منه لدغته، وأفرغت في قلبه سمّها الزعاف، فأودت به إلى التهلكة، وهذا يفضي إلى أنّ جمالها شرير، وأن حرباً تقوم بين عالمي العاشق المسكين المغرور المخدوع السّاذج الوفي وهذه الأنثى المتربصة الخادعة الشريرة، وشتان مابين العالمين، وإذا كانت النتائج تُقرأ من المقدمات فإن نهاية هذا العاشق واضحة المعالم جليّة، والدوال في الأبيات الثلاثة الأولى من هذا المقطع توحي بذلك، فالوفاء من جانب هذه الأنثى معدوم، والدوال هي: “يهديه طالع ضلّة ورياء- أن يهلكوا بظماء- تُميت ناشقها بلا إرعاء)، وهذا يومئ أيضاً إلى أنّ الشاعر يتهم الحبيبة صراحة وضمناً بأنها غير وفية، وكأنّه يحذّر الآخرين من مغبّة أن يكونوا عشاقها، فقلبها لم يخفق مرّة واحدة بالحبّ، ولذلك فإنه يثور عليها، ويواجهها بالأدلة مواجهة صريحة.
ويظنّ القارئ أن الشاعر اكتشف ثغرة في شخصية الحبيبة، وبناء على ذلك فإنه يتوقّع منه أن ينقلب على أوضاعه ويتغيّر، كأن يعاقبها، أو يثأر لنفسه منها، أو يقابلها بالخيانة والغدر، أو يتخلّى -على الأقل- عن هذه الحبيبة المخادعة الغادرة، ولكن ثبات العاشق على أوضاعه القديمة لايفاجئ القارئ كلّ المفاجأة في بقيّة المقطع، فهو يقدّم الدوال التي تؤكّد أنه سلّم أمره وقلبه وحياته لسلطان الحبّ والحبيبة، كما تسلّم الذبيحة نفسها لذابحها، والحبيبة محكّمة تفعل ماتشاء دون رغبة منه في الاحتجاج، أو الرفض، فهي السيّدة، وهو العبد المطيع، بل هو يستغفرها على مابدر منه من اتهامات أو دفاع عن النفس، ويسمّى ماجاء في اتهاماته وثورته السالفة عتاباً، ولايكون العتاب إلاّ بين المحبّين، وهو انجذاب وتعالق وإعادة اتصال، لا انفصال وقطيعة، ثمّ إنه يراجع نفسه، ومَنْ هو ليعاتب سلطان الحبّ والحبيبة؟ وتبرز -هنا- صورة المرأة الأسطورية المتحكّمة التي لا رادّ لإرادتها وسطوتها وسلطانها، فهي الزهرة والكوكب والمورد، ولاحضور له من دونها، وهذه الصورة هيمنت على الشعر الرومانسي الصافي، ثم من هو إزاء هذا الجمال المطلق المسلّط والفتنة الفتاكة؟ ولذلك فإنه لايكتفي بمراجعة نفسه، وإنّما هو يُخطّئها ويدين أقواله السالفة، فتنعكس الآية، فبعد أن كان هو القاضي في الأبيات الأولى والحبيبة متهمة، غدا في الأبيات الأخيرة من المقطع قاضي نفسه، وإذا هو ينشطر إلى نصفين: نصفه يحاكم نصفه الآخر، ويعنّفه، ويخطئه، ويجازيه على تجرئه إزاء سيادة الجمال المطلق، فينتقل الصراع بين العاشق ومن يحبّ إلى الصراع الداخلي بين العاشق ونفسه، وتتبرأ الحبيبة من كلّ ماوُصفت به في بعض الأبيات، ولايشكّ العاشق لحظة في أنّ هذه الأفكار والتصوّرات التي وُضعت بها الحبيبة كان ينبغي ألا تكون، فهي التي أساءت إلى جوهر الحبّ نفسه، ولذلك فإن منزلة الحبيبة ترتفع فجأة من متهمة خائنة شريرة إلى منزلة المرأة الأسطورية الملاك والمثال، فيعتذر منها الشاعر بلفظة “حاشاك”، وهي لفظة تحمل معاني الحبّ والعبادة والتقديس، وتجعل هذه الأنثى فوق الشبهات، وتستثنيها مما جاء من أحكام وصفات طائشة، ولذلك فإنّه يؤنب نفسه ويعرّضها للشقاء، والشقاء مكتوب على المحبيّن والبشرية، وهذه -كما يرى الشاعر- سُنّة الحياة، وهو يواجه نفسه بهذه الحقيقة الرومانسية: إذا شئت ألاَّ تتحمّل الشقاء فلماذا أنت عاشق متيم إذاً؟ وكأن الحبّ والشقاء في دلالات هذا المقطع وجهان لعملة واحدة، وهما متلازمان، ولذلك فإنّ الشاعر العاشق يتقبّل بعد ذلك نتائج الحبّ، ويندفع إليه بإحساسات رومانسية وصوفية صافية، يندفع وراء هذا الكوكب وإن كان يدرك سلفاً أنّه يضلّه، ولكنها ضلالة ممتعة إذا كانت أنوار تلك الطلعة الزهراء تؤنس مقلتيه لفترة ما، وإن كان أيضاً هذا الإيناس وهماً نفسياً، ويندفع أيضاً وراء ذلك السّراب، وهو يدرك أنه سراب لايقود إلاَّ إلى مزيد من العطش والتهلكة، ومع ذلك فإنه يوهم نفسه برشفة من وهم ذلك السراب، وهو يندفع وراء تلك الزهرة ليتنشّق عبيرها القاتل، وليكون فيما تبقّى له من العمر عبداً طائعاً، يندرج اسمه بين شهداء الحبّ وعابدي الجمال.
تشكّل هذه الدوال ذات الدلالات المركبة المتناقضة المتواجهة في ثنائيات بين محوري الحب والكره/ الوفاء والغدر/ السيادة والعبودية/ الظلم والعدل/ ظاهر الحبيبة وباطنها/ الموت والحياة.. تشكّل هذه الدوال معظم دلالات هذا النص بمقاطعه.
وفي النص الشعري شخصيتان: شخصية تتكلّم، وهي تسرد وتكشف وتروي وترى وتتنبّأ، وهي التي تطرح الأسئلة وتجيب عنها، وشخصية صامتة غائبة، ولكنها متكلّمة في غيابها، حاضرة في كلام الآخر، وهي التي تهيمن على مسرح الذاكرة ومخيّلة الشخصية التي تتكلم، فهي الموضوع الذي تدور حول مفاصله بنية القصيدة، وإذا تركنا الشخصية الأولى الناطقة، واستعرضنا صفات الشخصية الصامتة وجدناها أنثى تتميّز بالانشطار والانقسام إلى عدة إناث، وتتلوّن بعدة ألوان وصفات، فهي الحبيبة، وهي الغريبة، هي العاشقة، وهي القاتلة، هي القريبة، وهي البعيدة، هي الإنسانة، ولكنّ فيها عنصراً أسطورياً، لم تخلُ صفاتها من صفات إيجابية، فهي على الأقل كانت حبيبة الشاعر، ولكنّ الصفات السلبية تطغى على سواها، فهي تسبّب لعاشقها الوفي الداء في المقطع الأول بهجرانها، وهي الأقوى والمهيمن، مع أن اللّه سبحانه خلقها ضعيفة وأنيسة لوحدة الرجل الأول، ومع ذلك فهي صارت بضعفها قوية، وبخضوعها سيّدة، وبأُنسِها موحشة، وقد وقعت تلك الأفعال على الشاعر الذي يعاني سكرات الموت من جرّائها ومن دون أن تسال عنه، وكأنها لم تأتِ ذنباً، أو لم تقترف إثماً بحقّ الحبيب، مع أنها هي التي سلبته كل شيء: عمره وعبقريته في المقطع الثاني، وهي تقوده، وتسيّره، وتدفعه إلى حيث تشاء، بل تقوده إلى حتفه بإرادته، كما يستشفّ من المقطع الثالث، ومع ذلك فهو لايمتلك حقّ الدفاع عن نفسه، ولايملك من أمره شيئاً، وهو يظلّ وحيداً إلاّ من ذكريات حبّه في المقطع الرابع، وتستطيع هذه الذكريات القاسية أن تحلّ محلّ الحبيبة في أثناء غيابها، فإذا كان حضورها عاديّاً، فإنّ حضورها طاغٍ في غيابها، لأن أحزانه تطبق على صدره ساعة الإمساء، وتدعه في المقطع الخامس إزاء غروبه النفسي، وهو إزاء غروبه الشخصي في المقطع الأخير، ليكون مساؤه هو مساء العمر الذي انتهى.
ويتساءل القارئ حول طبيعة هذه الأنثى: أهي أنثى عادية أو أنثى فوق عادية؟ ففي النص غير صفة من صفاتها، هي الحبيبة، ولكنها غير وفية، هي خائنة غادرة، ولكن صورتها تظلّ أقرب إلى صورة المرأة المثال، هي متهمة، ولكنها بعيدة عن أن تمثل تحت سيطرة قاضيها الشاعر، إنها أنثى الفعل والوجود في النص، وهي التي تسبّب بؤس الشاعر وتجلب له الأحزان، وهي التي تتحوّل من حال إلى حال ومن صفة إلى أخرى بين المقاطع، ولذلك فإنها شخصية فاعلة، غنية، أما شخصية الشاعر فهي منفعلة ثابتة، لاتتغيّر، ولاتتحوّل بالأحداث؛ فالوفاء يلوّن شخصية الذات الناطقة بألوانه المختلفة، ويجعلها واحدة، ويلوّن التحوّل الشخصية الغائبة المتكلّم عنها بألوانه المختلفة، ويجعلها متعدّدة، فالشاعر أسير الحب ورهين الجمال، تقوده عواطفه، ويُسيّره هواه، وهذا ماتدلّ عليه النداءات في المقطع الثالث، فهي نداءات توسّلية داخلية أكثر منها نداءات خارجية، هي نداءات من أعماق اللاّشعور، والنداء لايكون إلاّ التماساً لحاجة، ولايصدر إلاّ عن محتاج إلى مساعدة، وهذا يعني أن الذات المتكلمة تحتاج إلى إغاثة الذات الغائبة، ولذلك فإن الأولى ترفع صوتها بالنداء اليائس التماساً للراحة ورغبة في السعادة، ولكن هيهات ماتتطلّع إليه، فإن الذات الغائبة تتلهّى وتتسلّى بعذابات الذات المتكلمة المستغيثة، وتقهقه منتصرة على ضحيتها، وهنا تبرز سادية هذه الأنثى، وتتجلّى هذه السادية من خلال ذاكرة الذات الناطقة التي استحضرت إلى خشبتها صورة هذه الأنثى.
وإذا توقفنا عند الأسئلة التي تطرحها الذات المتكلّمة فهي قليلة بالقياس إلى الجمل الإخبارية، مع أن النص حافل بالنداء وأساليب المدح والتعجب وسوى ذلك، وتتركّز الأسئلة في المقطعين الرابع والخامس، وهي أسئلة لاتتطلّب أجوبة، لأن الجواب كامن في السؤال نفسه، أو هو في السياق، حتى إنّ السياق يمثّل بجمله الإخبارية والإنشائية سؤالاً واحداً عريضاً: لماذا تُقدم هذه الأنثى الحبيبة على ما أقدمت عليه؟ ولماذا يكون الشاعر ضحية هذا الحبّ مع أنه الوفي المخلص المطيع؟..
إن التقريرية السردية التي تطالعنا في المقاطع، وبخاصة في المقطعين الأول والثاني، لاتخلو من تساؤل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://dz-sniper.yoo7.com/
 
تحليل قصيدة المساء لخليل مطران
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كيك الزبادي لقهوة المساء
» اذكار الصباح و المساء
» تحليل شخصيتك من اختيارك للصورة
» في تحليل الخطاب - لسانيات النص...
» كيفية تحليل نص أدبي في البكالوريا...

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات القناص الجزائري :: قناص المرحلة الجامعية :: قناص اللغة و الأدب العربي-
انتقل الى: