عبد الباري عطوان
ليفني تهدد.. أبو الغيط يصمت
ان تهدد تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية باجتياح قطاع غزة، و'سحق' المقاومة فيه، وحركة 'حماس' بالذات، فهذا أمر متوقع، ولا جديد فيه، ولكن ان تصدر السيدة ليفني هذه التهديدات من قلب عاصمة عربية، قدّم شعبها وجيشها آلاف الشهداء من أجل فلسطين، فهذا أمر مستهجن، علاوة على كونه مهيناً، وغير مقبول.
كنا ننتظر من السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري الذي كان يقف إلى جوارها، وهي تطلق هذه التهديدات، وتلوح بيدها غاضبة، ومتوعدة، في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقداه في ختام مباحثاتها مع الرئيس المصري حسني مبارك، كنا ننتظر منه أن يحتج، أو أن يطلب منها احترام حرمة المكان، ومشاعر عشرات الملايين من المصريين، ولكنه لم يفعل، نقولها بأسف شديد، وتصرف كأنه وزير خارجية كوستاريكا أو السويد، عندما ساوى بين الجانبين، الفلسطيني والاسرائيلي، بمطالبتهما بضبط النفس وعدم توتير الأوضاع.
نحن نسأل السيد أبو الغيط، والرئيس المصري حسني مبارك قبله، عما اذا كانا سيسمحان لأي مسؤول فلسطيني، ومن حركة 'حماس' بالذات ان يهدد بـ 'سحق' اسرائيل، وتغيير الأوضاع فيها، وقصف الاسرائيليين بصواريخ من طراز 'كروز' أو غيرها؟.. بالقطع لن يسمحا بذلك، لأنهما يعتبران اسرائيل دولة ذات سيادة، وفوق كل هذا دولة صديقة، تربطها معاهدات سلام مع مصر، ومثل هذه التهديدات 'غير حضارية'، وغير مقبولة.
الحكومة المصرية دعت السيدة ليفني لزيارتها ليس للاحتجاج على حشودات جيشها استعداداً لاجتياح قطاع غزة وإحكام اغلاق المعابر ووقف كل أسباب الحياة عن مليون ونصف مليون انسان، وانما سعياً للتهدئة، أو بالأحرى لاستجدائها، لأن هذا الاجتياح، في حال حدوثه، سيشكل أكبر إحراج لمصر، وسيخلق لها صداعاً أمنياً وأخلاقياً مزمناً، ربما ينعكس على شكل توترات داخلية، وتهديدات لأمنها القومي، هي في غنى عنها في مثل هذا الظرف الذي تتزاحم فيه المشاكل عليها من كل جانب.
الحكومة المصرية مرتبكة، وتصرفاتها توحي بذلك، فهي تستدعي السفير السوري في القاهرة للاحتجاج على مظاهرة أمام سفارتها في دمشق للمطالبة بفتح معبر رفح، ولكنها لا تجرؤ على استدعاء السفير الاسرائيلي للاحتجاج لأن حكومته ترتكب مجازر في قطاع غزة، وتمارس حصاراً تجويعياً على أهله، وتتصرف كأنها دولة في القطب الشمالي، أثناء الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان، أو أثناء مجزرتي قانا الأولى والثانية.
'''
نعترف مسبقاً بأن اسرئيل دولة تملك ترسانة عسكرية متضخمة بأسلحة الدمار الشامل، وتستطيع تحريك دباباتها وطائراتها الحديثة لاحتلال قطاع غزة في أيام، ان لم يكن في ساعات، فحركة 'حماس' التي تريد اطاحتها ليست دولة 'عظمى' تملك جيوشاً جرارة، وجنرالات درسوا فنون الحرب في كليات 'سانت هيرست' البريطانية، أو 'ويست بوينت' الأمريكية، مثل معظم نظرائهم في الدول العربية 'المعتدلة'، كما انها لا تستطيع تهريب الدبابات عبر أنفاق رفح.
مصدر قوة 'حماس' وفصائل المقاومة الاخرى يتمثل في التمسك بأدبيات المقاومة والثوابت الوطنية والأخلاقية العربية، والاسلامية، والالتصاق بالمواطنين الفلسطينيين وترجمة طموحاتهم في التصدي لمشاريع التصفية الامريكية والاسرائيلية لقضيتهم برجولة وشجاعة، والدليل الأبرز على ذلك ان كل اشهر الحصار الاسرائيلي العربي الرسمي فشلت في تأليب أبناء القطاع ليثوروا على هذه الفصائل، بل ما حدث هو العكس، ومن غير المستبعد ان تطلق مأساة غزة شرارة قد تشعل الشارع العربي، وربما تحرك الجيوش للانقلاب على قياداتها المتخاذلة المتواطئة مع اي عدوان اسرائيلي خاصة اذا صمد المقاومون لبضعة ايام في مواجهة الغزاة.
فما يحدث في غينيا حالياً، حيث تحرك الجيش وجنرالاته لملء الفراغ الدستوري بوفاة الرئيس، ومنع خلفائه الفاسدين من تولي السلطة، هو درس يمكن ان يتكرر في أكثر من عاصمة عربية، وبالتحديد في مصر، التي قد تواجه مثل هذه الحالة في اي وقت من الأوقات، حيث يرفض الشعب المصري في غالبيته الارث السياسي الراهن، واستمراره عبر خطط الخلافة.
اجتياح قطاع غزة لن يوقف الصواريخ، ولن يجلب الأمن للمستوطنات والبلدات الاسرائيلية وان اوقفها، اي الصواريخ، فلفترة محدودة، وفوق كل هذا وذاك، لن يقضي على حركات المقاومة الفلسطينية، فالقوات الاسرائيلية احتلت القطاع لعقود، واغتالت الشيخ احمد ياسين مؤسس حركة 'حماس' ومعظم قادتها الميدانيين مثل الدكتور الرنتيسي، وحجازي، والمقادمة والمهندس يحيى عياش، فماذا حدث؟..
ازدادت الحركة قوة وصلابة، بينما في المقابل ازداد خصومها 'المعتدلون' الفلسطينيون ضعفاً وهواناً. وانعكس ذلك في نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الاخيرة.
'''
غزة اصبحت 'معضلة' اسرائيلية، مثلما هي معضلة عربية، لأنها ردت الاعتبار لسلاح المقاومة، واعادت توحيد الشارع العربي خلفها، لأن شعبها لم يركع لسياسات التجويع والارهاب، وعقوق ذوي القربى، ناهيك عن تآمرهم ضده في وضح النهار.
ايهود باراك لم يتوقف عن التهديد باجتياح القطاع طوال الاشهر العشرة الماضية، ولكنه لم يفعل، ليس رأفة بالشعب الفلسلطيني، وانما رعباً من النتائج، فالاجتياح يعني استفزاز المقاومة واستبسال عناصرها في مواجهة الدبابات الاسرائيلية، واطلاق مئات الصواريخ على عسقلان، واسدود، وبئر السبع، وربما تل ابيب، فكل الاحتمالات واردة، والمفاجآت واردة ايضاً، فمن كان يتوقع صمود المقاومة الاسلامية اللبنانية اربعة وثلاثين يوماً وتحقيق اهم انتصار حقيقي في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، واقامة 'مقابر جماعية' لدبابات الميركافا فخر الصناعة العسكرية الاسرائيلية؟
صحيح ان مساحة قطاع غزة لا تزيد عن 150 ميلاً مربعاً، وليس فيه غابات او ادغال او جبال 'تورا بورا' الشامخة، ولكن فيه رجالاً مؤمنين، مستعدين للشهادة في ميدان المواجهات، على الشهادة جوعاً، ومرضاً، بفعل الحصار.
نقولها للمرة الألف، ماذا ستفعل السيدة ليفني بقطاع غزة بعد احتلاله، اذا تمكنت قواتها من تحقيق ذلك؟ هل ستبقى في القطاع كقوة احتلال ام ستسلمه الى الرئيس عباس، ام ستنسحب منه هروباً، مثلما فعل جنرالاتها بعد هزيمتهم في جنوب لبنان؟ هل تذكر او تتذكر السيدة ليفني وباراك وزير دفاعها اساطير المقاومة في القطاع التي دفعت ارييل شارون لابتلاع 'قرص سم الانسحاب' المهين، والمغادرة دون شروط؟
اجتياح قطاع غزة اذا وقع، ورغم الكوارث الانسانية التي يمكن ان تلحق بأهله من جرائه، وعشرات، بل ربما مئات الشهداء، الذين سيسقطون نتيجة له، هذا الاجتياح، ربما يكون مفيداً للقضية الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات، من حيث فضح النظام الرسمي العربي اولاً، وكشف الوجه النازي الحقيقي لاسرائيل، الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، امام العالم بأسره، واسدال الستار على مهزلة المفاوضات وابطالها في الجانب الفلسطيني على وجه الخصوص.
قطاع غزة اصبح عنوان الكرامة العربية والاسلامية، والبديل المشرّف للرد على عملية سلمية مهينة مذلة لم تقدم للفلسطينيين غير المستوطنات والحواجز الامنية، والسور العنصري، والاعتداءات في الخليل، والأهم من ذلك مسؤولين فلسطينيين ادمنوا التسول والاستجداء، وحوّلوا الشعب الفلسطيني الى شعب من المتسولين او الشحاذين، بعد ان كان، وكوفيته، رمزاً للاباء والشمم والثورة على الظلم.
فألف تحية الى أهل غزة وكل الشرفاء في الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
chafik.net