حمدا لمن بيده زمام الأمور،حمدا لمن هتك ظلمات الضلالة بالنبي العدناني،أنزل عليه القرآن ،بالهداية والبيان وأرسله بإيضاح البيان،فكشف مكنون المعاني ببديع بيانه وفصاحة لسانه إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون،فسبحانه تقدست أسماءه،وجلت صفاته.
وبعد:
النقد الأدبي في العصر الجاهلي...
لا شك في أن النقد الأدبي عند العرب قد مرَّ بمراحل مختلفة، وبدأ بالنقد الانطباعي الجزئي الذي يقوم على العفويَّة والذوق العام، أو الذي يحسّ به الشعراء أو متذوقو الشعر، ثم انتهى إلى نقد ممنهج يقوم على قواعد وأسس مثلما يقوم على بيان الأسباب التي قادت إلى النتائج التي يتضمنها التفسير أو التقويم .
ومن غير الممكن أن يكون هذا الإتقان في بناء القصيدة قد حدث دفعة واحدة. ولا بد من أن يكون الشعر الجاهلي قد خضع لمسيرة طويلة حتى استوى على الصورة التي نجده عليها عند شعراء المعلقات وغيرهم، ولا بد من أن يكون هذا الشعر قد خضع لكثير من المدارسة والمراجعة بعبارة أخرى خضع لكثير من النقد، حتى صارت له أصول وتقاليد ومذاهب فنية، ووصل إلى هذه الدرجة من الإتقان والجودة
وهذا يعنى أن العرب القدامى قد عرفوا النقد الأدبي وزاولوه، عرفوه فطرة وطبيعة، وزاولوه ذوقاً وإحساساً، وطبقوه على نتاجهم الشعري، ولكنهم لم يعرفوه علماً وفناً، له أصوله وقواعده إذ لم يسموا عملهم هذا نقداً، ولم يصفو هذا الوصف، لأن كلمة (نقد)- مقصوداً بها تمييز جيد الكلام من رديئة
ملامح النقد الجاهلي:تشير الروايات التي تناقلتها كتب الأدب ، إلى أنماط مختلفة من النشاط النقدي عند الجاهليين فمن ذلك نظرة الشعراء منهم إلى نتاجهم، فكان أغلبهم يتناول شعره بالنظر والتأمل، فلا يزيده النظر والتأمل إلا احتفاءً به وحباً له، ورغبة في تثقيفه، ومحاولة دائبة لصقله، حتى يصل به إلى درجة يشعر معها أنه راض كل الرضا.وعرف منهم
زهير بن أبى سلمى، وكعب وعدد آخر من الشعراء ممن يسمّون " عبيد الشعر" و" اصحاب الحوليات" لأن الواحد منهم كان لا يظهر قصيدته للناس إلا بعد أن تمكث عنده حولا كاملا، يتعهدها فيه بالتهذيب والتقويم والتجويد.
فها هو ذا كعب بن زهير، يذكر الشعر وحاجته إلى التقويم والتثقيف، ويذكر فضله وفضل الحطيئة في هذا الشأن فيقول:
فمَنْ للقوافي شانَها من يحوكها ..... إذا ما ثَوى كعبٌ وفوَّز جَرْوَلُ
يُقَوِّمُها حَتَّى تَلِينَ مُتُونُهَا ... فيُقْصِرَ عنها كلُّ ما يَتَمَثَّلُ ولم يقف الأمر بالشعراء الجاهليين عند حد شعرهم بالتأمل فيه والنظر إليه، ومحاولة تنقيحه وتهذيبه... بل تعدوا ذلك ، فكان منهم من يتجاوز النظر في شعره إلى النظر في شعر غيره، فيتناوله بالفحص والتدقيق وإنعام النظر فيه مرة بعد مرة، ثم يعقب على ذلك، بما يرى من استحسان أو استهجان.
لقد اجتمع عند النابغة الذبياني مرة الاعشى والخنساء وحسان بن ثابت، فقدَّم الأعشى عليهما ، وأخَّر حسانا فغضب حسان، وقال له: والله لأنا اشعر منك ومن أبيك! فقال له: حيث تقول ماذا؟ فقال حسان حيث أقول:
لنا الجفناتُ الغُر يلمَعْنَ في الضُّحى... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نجدةٍ دَمافقال النابغة: إنَّك لشاعر ولكنك: أقللتَ جفانك وأسيافك ، فقد عاب عليه النابغة استعمال (لجفنات ) و (وأسياف) وكل منهما يدل على العدد القليل ، أما الكثير فيدل على " جفان" و " وعاب عليه النابغة أيضا قوله يلمعن في الضحى) ولو قلت: يبرقن في الدجى لكان أبلغ، لأن الضيف في الليل أكثر، وقلت يقطرن من نجدة دما) فدللت على قلة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثر لانصباب الدم.
ومنها ما روى أن أهل المدينة نقدوا شعر النابغة الذي وقع فيه (الإِقواء) (2) وهو قوله:
أمِنَ الِ مَيَّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِ....عجلانَ ، ذا زادٍ ، وغيرَ مزودِ
زعم البوارحُ أنَّ رحلتنا غداً....وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسودُ
ويروي أبو عمرو بن العلاء أن الذبياني، لما قدم يثرب على الأوس والخزرج - وكان أهل الحجاز من المعجبين بشعره، وكانوا قد عرفوا الإِقواء في شعره- دسّوا له قينة ( جاريه) تغنيه به، فغنته ومدت صوتها بالقوافي، فظهر الاختلاف في حركتها ؛وتنبه النابغة لما جاء منها مضموماً، وهى مكسورة كلها، فأصلحه على الوجه الآتي :
زعم البوارح أن رحلتنا غداً ....وبذاك تَنعابُ الغرابِ الأسودِبمخضَّب رخص كأن بنانه ....عنمٌ على أعضائه لم يُعقدوكان الشاعر إذا أنشد شيئا من شعره تلقاه المستمعون بالإعجاب والثناء، أو تنبَّهوا على أخطائه وسقطاته، ومن ذلك أن المتلمِّس قال في وصف بعيره
وقد أتناسى الهمَّ عندَ احتضاره ....بناجٍ عليه الصيعريةُ مُكدمِ فقال طرفة بن العبد عندما سمعه (استنوق الجمل) أن الشاعر قد وصف الجمل بما توصف به الناقة ، لأن الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة ولا تكون للبعير.
ومن الأمثلة على هذا اللون من النقد- أيضاً- ما روى أن الحطيئة سئل: من أشعر العرب؟ قال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون ,,,عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم يقصد بهذا زهيراً، وسئل: ثم من؟ قال الذي يقول:
مَنْ يَسْأَلْ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ.... وَسَائِلُ اللَّهِ لَا يَخِيبُيقصد عبيد بن الأبرص
وتروي كتب الأدب أن النابغة الذبياني، كانت تضرب له قبة في سوق عكاظ، حيث يفد إليه الشعراء يعرضون عليه نتاجهم، فإذا به يستمع إليهم جميعاً، ثم يحكم في النهاية لمن نالت قصيدته الرضا والاستحسان.
وتروى لنا كتب الأدب مشهداً من تلك المشاهد التي كانت بين النابغة والشعراء في عكاظ، أنشده الأعشى مرة، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم شعراء من بعده، ثم الخنساء أنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر التي منها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فأعجب بالقصيدة، وقال لها:" لولا أن أبا بصير- يعني الأعشى- أنشدني لقلت: إنك أشعر الجن والإِنس ". فالأعشى إذن أشعر الذين أنشدوا النابغة، والخنساء تليه منزلة وجودة شعر.
ومن الأمثلة على هذا اللون من النقد الذي يقوم على المفاضلة بين الشعراء ما روى أن رهطاً من شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب، وهم: الزبرقان ، بن بدر، والمخبل السعدي، وعبدة بن الطبيب، وعمرو بن الأهتم، اجتمعوا قبل أن يسلموا وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذاكروا أشعارهم، وقال بعضهم:" لو أن قوماً طاروا من جودة الشعر لطرنا "، فتحاكموا إلى أول من يطلع عليهم ، فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي أو غيره في رواية، وقالوا له:" أخبرنا أينا أشعر؟" فقال:" أما عمرو فشعره برود يمنية تطوى وتنشر، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزوراً قد نحرت، فأخذ من أطايبها، وخلطه بغير ذلك، أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء" وفي رواية أخرى أنه قال لعمرو: "وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر، يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وقال للمخبل: وأما أنت يا مخبل، فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وقال لعبدة: وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها، فليس تقطر ولا تمطر"
وكان الشعراء يحكمون بينهم أفراد المجتمع على اختلاف فئاته، فمن ذلك أن امرؤ القيس وعلقمة بن عبدة التميمي، تذاكرا أمر الشعر، واختلفا فيمن هو أشعر من صاحبه، ثم اتفقا على أن تحكم بينهما زوج امريء القيس ، فقال امرؤ القيس قصيدته وقال علقمة قصيدته ففضلت علقمة على زوجها وذلك لأن امرأ القيس وصف جواده في تلك القصيدة بقوله:
فللسوطِ ألهوبٌ، وللساقِِِ درةٌ ... وللزجرِ فيه وقعُ أحرجَ مذهبِووصف علقمة جواده فقال :
فأدركهنَّ ثانياً من عنانهِ ... يمرُّ كمرّ الرائحِ المتحلبِ فكان فرس علقمة أجود، لأن امرأ القيس زجر فرسه، وضربه بسوطه، وأما علقمة فأدرك بفرسه غرضه، لم يضربه بسوط ولم يجهده ".
مقاييسه:
ولسائل أن يسأل ويقول: على أي نحو كان هذا النقد الجاهلي؟ أكانت له أصول وأسس يتم على أساسها تقويم الشعر الجاهلي، أم كان مجرد نقدات فطرية، ونظرات ذوقية ؟
نستطيع أن نقول: إن النقد الذي مارسه قدامى النقاد العرب- في بدايات النقد وأولياته- لم تكن له أصول معروفة، ولا مقاييس مقررة، بل كان مجرد لمحات ذوقية، ونظرات شخصية، تقوم على ما تلهمهم به طبائعهم الأدبية، وسليقتهم العربية، وأذواقهم الشاعرة، وحسهم اللغوي الدقيق بلغتهم، وإحاطتهم بأسرارها، ووقوفهم على ما للألفاظ من دلالات وإيحاءات في شتى صورها، بالإضافة إلى ما تزودهم به الطبيعة العربية الجاهلية من معارف وتقاليد، تساعدهم كثيراً في لمحاتهم النقدية، ونظراتهم الشعرية.
طبيعة أحكام النقد :لعلنا نستطيع- من خلال ما تقدم من حديث عن ملامح النقد الجاهلي ومقاييسه- أن نستشف طبيعة الأحكام النقدية في هذا العصر، وأن نقف على سماتها وملامحها.
وأول سمة لهذه الأحكام: هي سمة العموم: ونعنى بها أن يطلق الناقد- في أحيان كثيرة- أحكامه، ويرسل آراءه، دون أن يذكر سبباً، أو يردف علة، وخير مثل لذلك قول الحطيئة- وقد سئل عن أشعر العرب-: أشعر العرب الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ....يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
يقصد زهيراً. وسئل: ثم من؟ قال الذي يقول:
من يسأل الناس يحرموه ....وسائل الله لا يخيبومن ذلك حكمهم على بعض القصائد بأنها بالغة منزلة عليا في الجودة بالموازنة بغيرها، كقولهم في قصيدة سويد [55] بن أبى كاهل اليشكري التي مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا ....فوصلنا الحبل منها ما اتسعقولهم عنها أنها من خير القصائد، ودعوها اليتيمة
وكقولهم عن قصيدة حسان اللامية التي مدح بها أبناء (جفنة)، والتي قال فيها:
لله در عصابة نادمتهم ...يوماً بجلق في الزمان الأولقولهم عنها إنها من أحسن ما قيل في المدح، وتسميتهم لها بالبتارة، لأنها بترت المدائح .
إلى اللقاء مع ورقة نقدية جديدة
منقووووول للأمانة....
سلااااااااامي للجميع ...
لا تنسوني من دعاءكم…
و في الختاام تقبلوا تحياات Dz.SniperChafik.Dz