حمدا لمن بيده زمام الأمور،حمدا لمن هتك ظلمات الضلالة بالنبي العدناني،أنزل عليه القرآن ،بالهداية والبيان وأرسله بإيضاح البيان،فكشف مكنون المعاني ببديع بيانه وفصاحة لسانه إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون،فسبحانه تقدست أسماءه،وجلت صفاته.
وبعد:
أصول المنهج البنيوي...
قياس الأدب بآليات اللسانيات بقصدِ تحديدِ بُنيات الأثر الأدبي وإبراز قواعده وأبنيته الشكلية والخطابية
ظهرت البنيوية اللسانية في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين مع رائدها (فرديناند دي سوسير)، من خلال كتابهِ "محاضرات في اللسانيات العامة"([1])، الذي نُشر في باريس سنة 1916م، وقد أحدثت هذه اللسانيات ابستمولوجية "معرفية" مع فقه اللغة والفيلولوجيا الدياكرونية.
وكان الهدفُ من الدرسِ اللساني هو التعامل مع النص الأدبي من الداخل وتجاوز الخارج المرجعي واعتباره نسقًا لُغويًا في سكونهِ وثباتهِ، وقد حقق هذا المنهج نجاحه في الساحتين اللسانية والأدبية حينما انكب عليه الدارسون بلهفة كبيرة للتسلح به واستعماله منهجًا وتصورًا في التعامل مع الظواهر الأدبية والنصية واللغوية.
وأصبح المنهج البنيوي أقرب المناهج إلى الأدب؛ لأنه يجمع بين الإبداع وخاصيته الأولى وهي اللغة في بوتقةٍ ثقافيةٍ واحدة، أي يقيس الأدب بآليات اللسانيات بقصدِ تحديدِ بُنيات الأثر الأدبي وإبراز قواعده وأبنيته الشكلية والخطابية.
فظهرت البنيوية في بداية الأمر في علم اللغة([2])، وبرزت عند فرديناند دي سوسير الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية عندما طبق المنهج البنيوي في دراسته للغة، واكتشاف مفهوم البنية في علم اللغة دفع بارت وتودوروف وغيرهما إلى الكشف عن عناصر النظام في الأدب([3]).
أما عن نظرية دي سوسير في علم اللغة، فهو يرى أنَّ موضوع علم اللغة الصحيح والوحيد هو اللغة في ذاتِها ومن أجلِ ذاتها، وقد فرّق بين اللغةِ والأقوالِ المنطوقةِ والمكتوبةِ، فاللغة أصواتٌ دالةٌ متعارف عليها في مجتمع معين، وإن لم توجد كواقع منطوق لدى أي فرد من أفرادهِ، أما الأقوال فكل الحالات المتحققة من استعمالات اللغة، ولا يكون واحد منها، بل ولا يلزم أن تكون جميعها ممثلة للغة في كمالها ونقائها المثاليين([4]).
إذن ففي دراسة اللغة لا بد من عزلها واعتبارها مجموعة من الحقائق؛ لأن اللغة بالتحليل السابق هي نظام إشاري (سيميولوجي)، أي إن علم اللغة يهتم باللغة المعينة ولا يلتفت إلى لغة الفرد؛ لأنها تصدر عن وعي ولأنها تتصف بالاختيار الحر.
ومن هنا انطلقت البنيوية من حقلِ علم اللغة إلى حقل علم الأدب، فسوسير في نظريتهِ كان يفرقُ بين اللغةِ والأقوال أو بين اللغة كنظام واللغة كاستعمال كلامًا أو كتابةً، فإن البنيويين يفرقون كذلك في علم الأدب بين الأدب والأعمال الأدبية([5]).
أما عن فكرة النظام أو النسق الذي يتحكم بعناصر وأجزاء النص مجتمعة، والذي يمكن أن يظهر من خلال شبكة العلاقات العميقة بين المستويات النحوية الأسلوبية والإيقاعية، فهي مستمدة من فكرة العلاقات اللغوية التي تعد أساسًا من أسس نظرية دي سوسير والتي وضحها حين قال بأن اللغة ليست مفردات محددة المعاني ولكنها مجموعة علاقات.
بمعنى إن الكلمة لا يتحددُ معناها إلا بعلاقتِها مع عدد من الكلماتِ، بما سبقها وما لحقها، كما إن العلاقة بين صوت الكلمة ومفهومها كما يرى دي سوسير هي علاقة تعسفية بمعنى أنه لا علاقة لمفهوم الكلمة بصوتها بدليل اختلاف صوت هذا الشيء بين لغة وأخرى، إذن فبناء اللغة أو نظامها لا يتمثل إلا في العلاقات بين الكلمات، وهي تمثل نظامًا متزامنًا حيث أن هذه العلاقات مترابطة([6]).
ونودُ أن نشيرَ إلى أن البنيويةَ كانت في أول ظهورها تهتم بجميع نواحي المعرفة الإنسانية([7])، ثم تبلورت في ميدان البحث اللغوي والنقد الأدبي.
والسؤال الذي أودُّ أن أطرحه هنا إذا كانت هذه العلوم الإنسانية كلها علوم بنيوية، فلماذا تبدو البنيوية الفرنسية جديدة ومثيرة ؟ أعتقدُ إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في المعنى الجديد الذي أضفته البنيوية على كلمة بنية.
إذن فالمنهج البنيوي هو نموذج تصوري مستعار من علم اللُّغة([8])، عند دي سوسير في المحل الأول بكل ما يلزم من هذا النموذج من نظرة كليّة تبحث عن العلاقات الآنية التي تُشكل النسق، وتسلم كل التسليم بثنائيات متعارضة تعارض اللغة، والكلام، والآنية، والتعاقب، وعلاقات الجمهور، وعلاقات الغياب([9]).
فاللغة هي الرحم الأوّل لنشأة المعيار البنيوي، إذ هي عبر هندستها المتجدّدة وتلازمها الوظيفي مع اللحظة التاريخية تمثل صورة الانبناء كأحسن ما يكون التصوير، فإن المعرفة اللسانية قد استوعبت الفكرة البنيوية فجلت ملامحها ووضعت المفاهيم المؤدية لها([10]).
ومن أبرز ما استحدثته البنيوية هو إدخال عامل النسبية في تقدير الظواهر والتخلي نهائيًا عن ناموس الإطلاق الذي قيّد العلم اللغوي تاريخًا طويلاً، أما مِفتاح هذا التحول وهذا التغيير فيتمثل في التمييز الذي علينا أن نعتبر به في تحليلنا للغة بين الزمن الطبيعي، وهو البعد الموضوعي لتوالي الأحداث وتعاقب أجزاء الكلام المعبّر عن تلك الأحداث، والزمن التقديري الذي هو موقف افتراضي يقوم على القيمة الاعتبارية للأشياء كما تعبر عناه اللغة، وهو الزمن التقديري وهو بالتحديد جوهر الفكرة البنيوية وهو بالتالي المعين الذي تستمد منه سطوتها المنهجية([11]) .
وهنالك من النقاد العرب من يرى أن البنيوية لها جذور عند نقادنا القدامى([12])، فعبد القاهر الجرجاني هو صاحب نظرية النظم، وهو يرى أن ليس للفظة في ذاتِها ـ لا في جرسِها ولا في دلالتِها ـ بين الألفاظ والمعاني والمعاني هي المقصودة في إحداث النظم والتأليف([13]) .
ويعقب جودت الركابي بعد هذا الحديث بقوله: "ما رأيكم في هذا الكلام الذي قيل قبل قرون سحيقة على لسان عبقري من عباقرة لغتنا، وأية نظرة صائبة في بيان علاقة اللفظ بالمعنى أو بما يسميه نقادنا العرب بـ ( السياق )"([14]) .
إذن فالأجزاء لا معنى لها دون هذه النظرة العلائقية التي يحكمها النظم، فعلينا أن نُدرك هذه العلاقة في النص لندرك قيمته، فقيمة النص تكمن في قيمة علاقة عناصره وأجزاءه ببعضها البعض وترابطها، والخصائص التي تضفي على تلك العـلاقات ككل.
فنخلص مما سبق بأن أوّل من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي في الثقافة الغربية نذكر كلا من رومان جاكبسون وكلود ليفي شتراوس على قصيدة (القطط) للشاعر الفرنسي بودلير في منتصف الخمسينات، وبعد ذلك طُبقت البنيوية على السرد مع رولان بارت وكلود بريموند و تودوروف، كما ستتوسع ليدرس الأسلوب بنيويًا وإحصائيا مع بيير غيرو دون أن ننسى التطبيقات البنيوية على السينما والتشكيل والسينما والموسيقا والفنون والخطابات الأخرى .
أما بالنسبةِ إلى استقبالها في الساحة العربية فجاء في أواخر الستينات وبداية السبعينات وذلك عبر الثقافة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوروبا، وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية .
كما كان تطورها في البلاد العربية تطورًا غير متكافئ فلم يكن النقاد مطلعين في كثيرٍ من الأحيان على ما يقوم به إخوتهم في الأقطار الأخرى، ونتيجة لذلك تعددت مشارب أخذهم عند النقد الغربي فبعضهم يرجع إلى ترجمات انجليزية ككمال أبو ديب، أو اسبانية مثل صلاح فضل، والبعض إلى النصوص الفرنسية وهو الأكثر([15]) .
فكان استقبالها إذن غير متكافئ كما كان في الوقتِ نفسه متفاوتًا من قطر لأخر حسب العلاقات التاريخية التي تربط كل بلد عربي بالبلدان الغربية، وقد عُرف هذا التيار في مصر مع الناقد صلاح فضل من خلال كتابهِ (النظرية البنائية في النقد الأدبي عام 1977م)، وكتابه (علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته)، وفي الأردن أعطى الناقد كمال أبو ديب دفعًا لهذا التيار من خلال نشره لكتابه (جدلية الخفاء والتجلي، دراسة بنيوية في الشعر الجاهلي)، وكتابه (البنية الإيقاعية في الشعر المعاصر عام 1974م)، وفي تونس والمغرب تكونت مجموعات من النقاد حول مفهوم البنيوية .
ففي تونس عبد السلام المسدي من خلال كتابه (الأسلوب والأسلوبية نحو بديل البنى في نقد الأدب)، وكتابه (النقد والحداثة) وكتابه (قضية البنيوية، دراسة ونماذج)، أما في المغرب فتوجد كذلك مجموعة من النقاد لهم ترجمات كثير لبارت وتودوروف وجنت، وهنالك مقالات حول الحداثة العربية في مجال الأدب والنقد، ومن هؤلاء محمد برادة في كتابه (محمد مندور والتنظير النقد)([16]) .
أما في لبنان فتمثل هذا التيار الناقدتان يُمنى العيد وكتابها (في معرفة النص)، وخالدة سعيد، وإن تفاوتتا في استخدام المنهج البنيوي نظرًا؛ لأنهما أقبلتا على هذا النقد بعد أن تمرستا مناهج النقد التي سبقت زمنيًا المنهج البنيوي .
فحاول النقاد العرب الجدد من مثل كمال أبو ديب ويمنى العيد إلى فتح طرق للبحث من أجل مقارنة التيار البنيوي بما قدمه التراث العربي من جهد في مجال علم اللغة كالجرجاني، والخليل بن أحمد الفراهيدي.
المراجع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : وله كتاب آخر بعنوان "دروس في علم اللغة العام" ذلك الكتاب الذي انطلق منه للمنهج البنيوي حيث انتقلت البنيوية بسهولة من اللغة إلى الأدب، فهو لا جدال في أنه واضع أسس المنهج البنيوي، ولكن يأتي بعده لُغوي آخر لا يقل عنه تأثيرًا في النقد البنيوي إن لم يكن أقوى أثرًا؛ لأنه أهتم اهتمامًا مباشرًا بلغة الأدب وهو (رومان جاكوبسون)، وله مقاله بعنوان: " علم اللغة وعلم الشعر .
(1) : إن مفهوم اللغة عند البنيويين تُعني: نظامًا من العناصر التي لا دلالة بالنسبة للباحث، ولذا كان على الباحث أو الدارس نبذ تأويل العناصر اللغوية باستعمال المعنى أو الوظيفة في الجملة على نحو المنطق اليوناني من فعل وفاعل ومفعول به، وما إلى ذلك من وظائف في الجملة، ولكن من خلال موقعها في شبكة العلاقات الأفقية والعمودية .
(2) : انظر: شكري الماضي، في نظرية الأدب، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986م، ص 190 .
(3) : نفسه، ص 190 ـ 191، و جان بياجه، البنيوية، ص 64 .
(1) : البنيويون يعرِّفون الأدب على أنه نظام رمزي تحته نظم فرعية يمكن أن تسمى (الأنواع الأدبية)، أما الأعمال الأدبية هي نصوص متحققة يمكن أن تمثل هذه النظم بكيفية ما، للمزيد راجع : المرجع السابق .
(2) : انظر: جان بياجه، المرجع السابق، ص 64 .
(3) : ومن العلوم الإنسانية التي ظهرت فيها البنيوية غير علم اللغة كما ذكرنا سابقًا، فظهرت في مجال علم الاجتماع وهذا عند كل من كلود ليفي شتراوس ولوي التوسير الذين قالا: أن جميع الأبحاث المتعلقة بالمجتمع، تؤدي إلى بنيويات، وذلك أن المجوعات الاجتماعية تفرض نفسها من حيث أنها مجموع وهي منضبطة ذاتيًا، وظهرت في مجال علم النفس وهذا عند كل من ميشال فوكو وجاك لاكان حيث وقفا ضد الاتجاه الفردي في مجال الأساس والإدراك .
(1) : قسم البنيويون اللغة إلى مستويات كالمستوى الصوتي والفونولوجي والمورفولوجي وإلى وحدات أصغرها الفونيم وهو وحدة النظام الصوتي، يليها المورفيم وهو مجموعة من الوحدات الصوتية قد تكون أدنى من الكلمة لكنها تدخل في علاقة استبدالية مع العناصر الأخرى .
(2) : انظر: إديث كريزويل، عصر البنيوية، ترجمة: جابر عصفور، دار سعاد الصباح، د.ت، ص 8 .
(3) : انظر: عبد السلام المسدي، المرجع السابق، ص 14 .
(4) : نفسه، ص 14ـ 15 .
(1) : وذلك انطلاقًا من أن البنيوية تعوّل على صياغة المعنى، وهو تعويل عَرفته العرب منذ ابن المقفع (ت 142هـ)، الذي شبّه المعنى بالذهب والأسلوب الصياغة، وقد تبنى الجاحظ ( ت 255 هـ)، رأي ابن المقفع فيما بعد، وبلور استنادًا إليه نظرية النظم، ثم جاء عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ)، كما ذكرتُ في المتن وقعّد نظرية النظم وعزّزها بالشواهد .
(2) : انظر: جودت الركابي، مقال بعنوان: أدبنا والبنيوية، مجلة الموقف الأدبي، العدد 220 ـ 221، آب 1989 .
(3) : نفسه .
(1) : انظر: محمد ولد بوعليبة، النقد الغربي والنقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002م، ص 58 .
(2) : انظر: جودت الركابي، المرجع السابق. منقوووووووول للأمانة...
سلااااااااامي للجميع ...
لا تنسوني من دعاءكم…
و في الختاام تقبلوا تحياات Dz.SniperChafik.Dz