حمدا لمن بيده زمام الأمور،حمدا لمن هتك ظلمات الضلالة بالنبي العدناني،أنزل عليه القرآن ،بالهداية والبيان وأرسله بإيضاح البيان،فكشف مكنون المعاني ببديع بيانه وفصاحة لسانه إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون،فسبحانه تقدست أسماءه،وجلت صفاته.
وبعد:
مدخل إلى التوسع في الموروث البلاغي والنقدي... يندرج موضوع البحث ضمن ما أطلق عليه الدكتور يوسف بكار، "قضايا معاصرة في نقدنا القديم"، فقد نبه على كثرة الدراسات الحديثة التي تعرض لتاريخ نقدنا العربي القديم واتجاهاته، وتدرس علماً من أعلامه أو أثراً من آثاره، وقلة الدراسات والبحوث والمقالات التي ترصد ظواهره وقضاياه الفنية، وتستقريها وتكشف عن طبيعة فهم القدماء لها، مما أدى إلى كثرة الأحكام العشوائية المرتجلة على نقدنا ونقادنا سواء ما كان إيجابياً أو سليباً( ).
هذه الدراسة موقوفه على مفهوم التوسع باللغة، وهو الإبداع باللغة، أي بواسطتها، وتتجاوز ما سماه يوسف بكار" الإبداع في اللغة أي الابتداع فيها" الذي عرفه العرب نقاداً وشعراء، وأجازه النقد حين أخذ بمبدأ" التوسع في اللغة"( ).
فالتوسع في اللغة يتناول التغيرات التي تطرأ على بنية اللفظة المفردة من ناحية صرفية معزولة عن السياق الأمر الذي استبعدته الدراسة من مجالها، كما استبعدت التوسع الناتج عن الاشتقاق، أو التعريب أو التحريف أو اللحن وأخذت الدراسة بمبدأ التوسع الذي ينهض على مبدأ الاختيار الفني الذي يسعى إلى خلق حالة أكثر تأثيراً وجمالاً من المعيار. وترى الدراسة أن ليس ثمة تناقض بين الإختيار الفني وما أطلق عليه الضرورة االشعريةكونها سمة أسلوبية تنم على تفرد المبدع وتصرفه بلغته.
التوسع في اللغة والاصطلاح:
تشير معجمات اللغة إلى أن السعة( ): نقيض الضيق، و"توسعوا في المجالس أي تفسحوا" والسعة: الجدة والطاقة"، واتسع النهار وغيره امتد وطال. والوسع: جدة الرجل, وقدرة ذات يده.
فالمعنى اللغوي يؤشر باتجاه طرفين ينتج الآخر عن الأول, أي السعة التي تتولد عن الضيق, ومن المبهر أن يكون من معاني السعة الجدة والطاقة، أي القدرة على التحمل والإنتاج والتوليد بشكل عام.
ومن المدهش ما يذكره ابن منظور عن أبي إسحاق في قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم", يقول: أينما تولوا فاقصدوا وجه الله تيممكم القبلة، إن الله واسع عليم" يدل على أنه توسعة على الناس في شيء رخص لهم، قال الأزهري أراد التحري عند إشكال القبلة".
فهو يربط بين الواسع والترخص في الأمر مما يؤثر على أن السعة تدل على المسامحة. وكل هذه الدلالات اللغوية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدلالة "التوسع" مصطلحاً, الذي يدل بشكل عام على توسيع دلالة اللفظ أو التركيب الأصلية لتشمل دلالات جديدة, وعلى الطاقة التي يحملها النص المتسع لتوليد دلالات جديدة ومتعددة, وعلى المسامحة والترخص في اختراق اللغة المألوفة والمعيارية والنمطية. مما يدل على أصالة مفهوم المصطلح عند العرب. يعزز ما نذهب إليه أن ابن جني يطلق على مفهوم التوسع (شجاعة العربية)، فقد نسبه إلى العربية وصرح بما ينطوي عليه من شجاعة في استعماله وترتبط هذه الأصالة ارتباطاً وثيقاً بما تركز عليه الدراسات النقدية المعاصرة من استخدام اللغة استخداماً خاصاً في الأعمال الأدبية والشعرية بنحو خاص، أو ما أطلقوا عليه (الانحراف) والانزياح. وتكشف طبيعة تناولهم لهذين المصطلحين عن تقاطعهما مع مصطلح التوسع، وقد صرح بعضهم بهذه العلاقة حين ترجموا المصطلح الأجنبي (Ecart) و (Deviation) بالتوسع أو الاتساع أو العدول( ).
وأشار حمادي صمود إلى أن البلاغيين والنقاد العرب اكتشفوا "مفهوماً يعتبر من دعائم الأسلوبية, اليوم, هو مفهوم"L’ecart", وقد أشاروا إليه بوضوح في مصطلحات من قبيل "الخروج" أو "العدول" أو "التغيير", ثم فهموا أنّ من مميزات اللغة في الأدب خروجها عن مألوف العبارة( ).
واشار المسدي إلى مفهوم المصطلح بأنه "تصرف في هياكل دلالات اللغة أو أشكال تراكيبها بما يخرج عن المألوف بحيث ينتقل الكلام من السمة الإخبارية إلى السمة الإنشائية أو الأدبية, ويتم ذلك بجدول التوزيع والاختيار أي العلاقات الاستبدالية"( ) أما الزيدي فقد أكد أن المتلفظ يعمد إلى تكسير الجملة العادية بحثاً عن تركيب" غير عادي" هو نواة أدبية الخطاب، وهو ما عبر عنه الأسلوبيون بمفهوم الاتساع Ecart( ).
وتبنى اليوسفي استخدام مصطلح العدول بدلاً من الانزياح والاتساع والتوسع مشيراً إلى أنها مفاهيم متداولة عند العرب يمكن أن ينوب بعضها عن بعض، فهي إنها تسميات للظاهرة نفسها أي (Ecart)( ).
وأورد صلاح فضل خمسة نماذج أساسية، طبقاً لمعايير اقترحها بعض الباحثين في تحديد الانحراف، يلتقي بعضها مع مفهوم التوسع، ويخرج بعضها عن مفهومه، فيتعدى الجملة أو العبارة إلى النص كاملاً مما يقصر دونه التوسع، إلا أنهما يتفقان في الجوهر، وهو الخروج عن قاعدة أو أصلٍ ما( ). وخلص إلى أنه "يمكن تصنيف الانحرافات طبقاً لتأثيرها على مبدأي الاختيار والتركيب في الوحدات اللغوية تبعاً (لجاكوبسون)؛ فالانحرافات التركيبية تتصل بالسلسة السياقية الخطية للإشارات اللغوية عندما تخرج على قواعد النظم والتركيب مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات. والانحرافات الاستبدالية تخرج على قواعد الاختيار للرموز اللغوية مثل وضع المفرد مكان الجمع أو الصفة مكان الموصوف أو اللفظ الغريب بدل المألوف"( ).
ووفق مبدأ (الاختيار) و(التوزيع) فإن اللغة في الخطاب الأدبي تصبح عملية مقصودة بحيث تتعدى اللفظة (المختارة) الدلالة الأولى أو الدلالة الذاتية إلى الدلالة الإشارية والإيحائية والمصاحبة "فإذا كانت اللسانيات قد أقرت أن لكل دال مدلول، فإن الأدب يخرق هذا القانون فيجعل للدال إمكانية تعدد مداليله عبر عنه الأسلوبيون بمصطلح(الاتساع) Ecart الذي تصبح به اللغة غاية لا مجرد وسيلة، ومن هنا ينشأ مبدأ طاقة الشحن. فالدلالة الذاتية ليست سوى حافز للدلالة الحافة، وانعدام الوظيفة المرجعية للدال يحدث في المتقبل(صدمة) و(خيبة انتظار)"( ).
ويرى الزيدي أن "الاتساع" ينتج" انطلاقاً من الكلمة نفسها، ولكنه يبرز بجلاء عند تركيب الكلمات المكونة للصورة الشعرية إذ هي لا تشرح المعنى بل هي تنحو نحو تغريبه) فالاستعارة مثلاً لا تعدو أن تكون إسقاطاً لدلالة الصورة الأولى مع بعث لدلالة جديدة"( ).
وركز الدارسون المحدثون على أن طبيعة استعمال اللغة في الشعر يختلف عما هو خارج الشعر, وحديثهم عن هذه المسألة ينصب في معظمه في مفهوم "التوسع".
فقد ذكر محمود محمد شاكر أننا "حين نذكر (الألفاظ) في معرض الكلام عن الشعر عامة، وفي كل لسان، فغير مراد بها مجرد وجودها في اللغة وفي كتبها، بمعانيها التي درج عليها أهل كل لسان في التعبير عن فحوى ما يريدون. فهذا أمر طلق مباح لكل متكلم يريد أن يفهم سامعه ما يقول, ثم يمنحه أكتافه وينصرف.
أما ألفاظ (الشعر) فأمرها مختلف، لأنهم يلبسونها بالإسباغ، ويخلعون عنها بالتعرية، ما يكاد ينقل اللفظ من مستقره في اللغة وفي كتبها، إلى مدارج تسيل باللفظ وقرنائه من الألفاظ إلى غاية غير غاية المتكلم المبين عن نفسه لسامعه. وهذا شبيه بما نسميه (المجاز) و(الاستعارة) و(الكناية) وما جرى مجراها"( ). وأشار إلى طبيعة الاستخدام الخاص للألفاظ والتراكيب في الشعر, فرأى أن "تمثّل القصيدة أمر شاق، في حديث الشعر وقديمه سواء، لأن الشعر كله يعتمد على الألفاظ، وعلى تركيب الألفاظ وتصريفها وعلى بناء الجمل ومنازلها من السياق، وعلى الأواصر الخفية بين الظاهر والباطن"( .
كما أشار شاكر إلى التوسع في أثناء شرحه أبيات وردت في طبقات فحول الشعراء لابن سلام بمعنى اتساع دلالة اللفظ( ).
وأشار مصطفى ناصف إلى استعمال اللغة استعمالاً يخرج عن مواضعات المعجم، وقال:" إننا نقرأ الكلمات، وقد عمينا عنها بفضل الاعتقاد الثابت. نقرأ من الشعر الكثير عن الشيب، ويغيب عنا أن نوسع معجم الكلمة في ضوء هذا الشعر، حتى يشمل صنوفاً من الخيال، والاشتعال والكشف الأليم، والضوء الغامض، أو الضوء الأسود. وما فائدة الشعر إذا نحن لم نستخدمه في الاعتراض على المعاجم, وزيادة فقهنا للكلمات أو تعديل هذا الفقه تعديلاً مستمراً"( ).
أمّا كمال أبو ديب فيرى "أن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا ينتج الشعرية بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة. وهذا الخروج هو خلق لما أسميه الفجوة: مسافة التوتر، خلق للمسافة بين اللغة المترسبة وبين اللغة المبتكرة في مكوناتها الأولية وفي بناها التركيبية وفي صورها الشعرية. إن الشاعر, من جهة, يمارس فاعلية جماعية ويمتاح من الروح الجماعية بمجرد أنه يستخدم لغة اصطلاحية معروفة مدركة لكنه في الوقت نفسه لا يستخدم هذه اللغة بما هي اصطلاح معروف مدرك, بل يدخلها في بنى جديدة تكتسب فيها دوراً, وفاعلية ودلالات جديدة"( ). وهو بهذا يرى أن الشعرية: "وظيفة من وظائف العلاقة بين البنية العميقة والبنية السطحية، وتتجلى هذه الوظيفة في علاقات التطابق المطلق أو النسبي بين هاتين البنيتين، فحين يكون التطابق مطلقاً تنعدم الشعرية(أو تخف إلى درجة الانعدام تقريباً) وحين تنشأ خلخلة وتغاير بن البنيتين تنبثق الشعرية وتتفجر في تناسب طردي مع درجة الخلخلة في النص"( ).
ويذهب محمد لطفي اليوسفي إلى "أن الكلمة ليست مجرد لفظ محدد المعنى, بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه إمكانات كثيرة من الدلالات. إنها بتعبير آخر عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال، غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة، هو الذي يجعل دلالةً ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط ينزل الشعر إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية، ويصبح نوعاً من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن، ليؤسس تبعاً لذلك، آفاقاً جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات"( ).
وتشير ديزيره سقال إلى التوسع الناتج عن طبيعة الشعر, فنا,ً التي تأبى أن ترضخ للمحدودية "فتحاول أن تجرد الكلمات مما يجعلها مألوفة على مستويين:
1. مستوى الذاكرة الاصطلاحية.
2. مستوى دخول المفردة في التركيب. فالمستوى الأول يكسب الكلمة ذاكرة توسع فضاءها الدلالي... والمستوى الثاني يدخل في إطار خلق الصورة"( ).
ويهمنا أن نلحظ أن الباحثة ترى أن ثمة توسعاً دلالياً للكلمة الشعرية, وليس انحرافاً أو انزياحاً يلغي علاقته بالأصل.
وترى الباحثة, كذلك, أن ثمة مستويين للدلالة المستوى الأول الدلالة العادية، أي دلالة الكلمة الاصطلاحية المتفق عليها. والمستوى الآخر الدلالة المكتسبة:" أي دلالة الكلمة التي- إلى جانب ذاكرتها- اشتملت على ذاكرة جديدة, غير مألوفة. وهذا يصير في معناه الأبعد المتطور ما يسمى بـ (الرمز) أو (الكلمة الرمزية) أو (المجازية), فهي لا تحيل إلى موضوعها بل إلى شيء آخر، مستعيرة من موضوعها نفسه طاقته الدلالية لتتخطاها. وهنا تختلف شبكة العلاقات الداخلية بين الرمز (اللفظة) والموضوع (المعنى) عنها في مستوى "الدلالة العادية" لأن الأشياء تتداخل وتتواتر على غير ما هو مصطلح عليه، إنها بذلك خرق للمألوف والسائد، ويعني هذا تأسيس منظومة جديدة دلالية في بنية اللغة، تتخطى مقدرتها العادية المعروفة، هنا بشكل خاص يبدأ الفن وتنحل الرموز الشائعة إلى رموز جديدة بذاكرة جديدة"( ).
إنّ المستوى الثاني أو الدلالة المكتسبة هو ما سماه القدامى "التوسع" بيد أن الفهم للدلالة المكتسبة لا ينفي الدلالة الأصلية في البنية المتسعة وما تعبر عنه بالفن الذي نعني به الإبداع باللغة.
اللغة الجديدة هي الشعر بمعنى "التجاوز الدائم ورفض القواعد الجامدة أو الجاهزة. بهذا الأفق نستطيع أن نقرأ انعطافات القصيدة, ونفهم محاولتها الدائمة للخروج من جلدها"( ). وهذا ما عبر عنه عز الدين إسماعيل حين رأى أن الأديب يمتاز بأنه "يختار للكلمة المكان الذي تكون فيه أصلح كلمة تستخدم, وتكتسب الكلمة (وضعا)ً خاصاً باستخدام الأديب لها في ذلك المكان. وهذا جزء من عملية التطويع التي يتناول بها الأديب اللغة ليخضعها لغرضه, ويستخدمها استخداماً خاصاً"( ).
وأشار صلاح فضل إلى أن الكلمة الشعرية تتضمن موت اللغة وبعثها في آن واحد( ). وينبه عبد العزيز حمودة على استخدام اللغة استخداماً خاصاً في الشعر يختلف عنه في العلم "ففي الوقت الذي تقوم فيه" المواضعة" في عملية التوصيل العلمي على استخدام اللفظ على الحقيقة، يقوم الشعر في استخدامه الخاص للغة، سواء عن طريق التحوير أو التحريف Deviation عن الدلالة بالمواضعة, إلى استخدام الألفاظ على المجاز. أي فيما "جاز فيه اللفظ"( ). ويشير إلى أن الإبداع في اللغة وبها "يدور في مجال الاستخدام الخاص للغة وليس على الحقيقة, أي استخدام اللغة على المجاز"( ). وهو ما رأى فيه حديثا عن النظرية الأدبية العربية, إذ جعل "الإبداع باللغة" الركن الثاني من أركان النظرية الأدبية-حسب رؤيته- ووضح المقصود بالإبداع باللغة بأنه "استخدام اللغة على المجاز"( ). إن هذا الاستخدام الخاص للغة هو التوسع بمفهومه الأشمل من المجاز ويبدو أنه استخدم المجاز استخداماً عاماً أقرب إلى مفهوم التوسع.
ونلمح مفهوم التوسع من خلال اشتغال (التفكيك) على ثنائية الحضور والغياب, والفهم والجدل العميق للعلاقة بينهما "فالحضور حسب التفكيك رهينة مرئية، والغياب ظلاله الكثيفة العميقة الغائرة، المحيط المضطرب المتسع الذي لا قاع له ولا شواطئ, وهو المدلول الذي ينطوي على خاصية الانفتاح المستمر على القراءة, فيتحاور مع القارئ, ويتحاور معه القارئ فيتسع, مثله مثل ماء ساكن، تتضاعف دوائره وتتسع إذا ما ألقي فيه حجر"( ). وهذا يلتقي بالتفجير المستمر للغة أي تعدد طبقات الدلالة والكشف عنها الطبقة, مستترة أو محتجبة, تحت الطبقة( ).
واشار المسدي إلى أن "ياكبوسن" حاول "تدقيق مفهوم الانزياح فسماه خيبة الانتظار من باب تسمية الشيء بما يتولد عنه"( ). والشعرية عنده استخدام خاص للغة، وهي كلام داخل الكلام( ). ففكرة "الاتساع" تبرز عند ياكبسون في شكل الوظيفة الإنشائية التي تولدها الرسالة ضمن العناصر الستة المكونة لجهاز الإبلاغ, وهي الوظيفة المهيمنة على سائر الوظائف في الخطاب الأدبي. وعناصر الوظيفة الإنشائية ترد أخيراً إلى تأثير "علم الدلالات" في الأسلوبية إلى حد اعتبار الأسلوب مجموع الطاقات الإيحائية"( ).
وينقل عبد العزيز حموده رأي "جوناثان كلر" في الصور المجازية بقوله: "لقد تم تعريف الصور المجازية باعتبارها بصفة عامة, تحويراً عن الاستخدام العادي أو انحرافاً عنه". وعلى سبيل المثال في My Love is a red rose يستخدم لفظ Rose لا لتعني الوردة, بل شيئاً جميلاً وثميناً (وتلك هي الاستعارة) The Secret sits يجعل السر إنساناً قادراً على الجلوس"( ). ثم يعقب: "فالتعريف الذي يقدمه الناقد الأمريكي الكبير في نهاية القرن العشرين لطبيعة المجاز ووظيفته لا يختلف في أي من جزئياته عن تعريف البلاغيين العرب لطبيعة المجاز في اللغة والأدب ووظيفته"( ).
ورأى "رامان سلدن" أن تركيز الشكلانيين على التقنيات قادهم إلى أن يعاملوا الأدب بوصفه استعمالاً خاصاً للغة يحقق لها التميز بانحرافه عن اللغة "العملية" المشوهة. وتستعمل اللغة العملية لتحقق أفعال (كذا) اتصالية, بينما لا تمتلك اللغة الأدبية أية وظيفة عملية على الإطلاق، وتقتصر على جعلنا نرى الأشياء رؤية مختلفة"( .
وبيّن أن الشكلانية ترى أن الانحراف عن المعيار هو الذي يولد الدلالة الجمالية. وأن الشعر يمارس على اللغة العملية نوعاً من العنف المسيطر عليه فيتشوه لكي يسلط انتباهنا إلى طبيعته البنائية( ). والانزياح عند "جان كوهن" هو الأسلوب. يقول:" فالأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف"( ), وهو يشخص اللغة الشعرية باعتبارها انحرافاً عن قواعد قانون الكلام( )، ورأى جاكوب كورك أن أكثر الوظائف حيوية للصورة الاستعاريللصورة الاستعارينيات اللغة، أي خلق معان جديدة من خلال صلات جديدة"( ).
ورأى عبد الحكيم راضي "أن ظاهرة الانحراف عن المثال في كل صورها كانت المحور الذي دارت حوله كل المباحث الأساسية التي تشكل صلب النظرية العربية في اللغة الأدبية، وأن حرص البلاغيين على تأكيد هذه الصفة، قد أدى بهم إلى سلوك أساليب معينة، واعتناق آراء خاصة وتبني وجهات نظر من شأنها المساعدة على إبراز هذه الخاصية. أعني الانحراف في لغة الأدب"( ).
وذهب موسى ربابعة إلى أن مفهوم الانحراف يدل دلالة كبيرة على مفهوم التوسع أو الاتساع عند العرب القدامى, وأنه يبرز أن إدراكهم لهذه القضية مرتبط بإدراكهم لطبيعة الأسلوب الذي يعد انحرافاً عن القاعدة العامة أو المألوفة "ويمكن أن يكون الانحراف معادلاً" للاتساع" أو "التوسع" وبخاصة في إطار التعبير المجازي، ويعتمد هذا الأمر اعتماداً أساسياً عل خيال المبدع في قدرته على التغيير من ماهية الأشياء ومنحها أبعاداً جديدة"( ).
وقد رأى حمادي صمود أن مجهود اللغويين تمخض" عن مفهوم نظري غاية في الأهمية والاكتناز هو أساس العمل البلاغي وركيزته, وهو مفهوم "للتوسع" وقد احتل من مؤلفاتهم المركز الذي تدور في فلكه بقية المبادئ الأخرى"( ). ولحظ أنه مصطلح متعدد الدلالة "يستقطب جملة من الطرق في القول، يوحد بينها خروجها عن الأصول النظرية التي تؤسس عملية تأليف الكلام مطلقاً ويدل به على ممارسات تراعي إرادة المتكلم وقصده أكثر من البنية العقلية المجردة التي استحدثها النحاة"( ).
وذكر أن "التوسع هو الإطار الكبير الذي تدور في فلكه كل عمليات التوليد في اللغة ومنها المجاز"( ).
ورأى ممدوح الرمالي أن ظاهرة الاتساع بوجه عام لا تعد مقصورة على لغة الشعر, إنما هي ظاهرة عامة في الاستخدام العربي وهي نمط من أنماط إبداع اللغة وإحدى صور هذا الإبداع( ). والتوسع في علم اللغة يعني استعمال اللفظ ليدل على اكثر مما وضع له( ). وعرف شكري عياد التوسع بأنه: "المرونة اللغوية التي تسمح بترك الأقيسة النحوية كلها والإقدام على ما فيه مخالفة صريحة للعلاقات الذهنية الصرفة"( ).
وألمع الأزهر الزناد إلى التوسع، ورأى أن في جملة مثل "وصل الأسد" توسعاً يتمثل في إضافة المتكلم اسماً جديداً إلى أسماء هذا الرجل يطلق عليه لما بينه وبين الأسد من شبه بقرينة مانعة ووازن بين أصل الوضع والتوسع, ورأى أن أصل الوضع حقيقي وتاريخي ومقنن وحاجي, في حين أن التوسع أو المجاز عدول واختراع فردي وآني وطلب للاتساع( ).
وأشار محمود سليمان ياقوت إلى مفهوم التوسع فقال:" يعد "الاتساع" (Expansion) واحداً من العمليات التحويلية التي تطرأ على العبارات والتراكيب النحوية، ويعرفه المحدثون من المشتغلين بالدراسات اللغوية بأنه عملية نحوية تأتي عن طريق إضافة بعض العناصر الجديدة إلى المكونات الأساسية دون أن تتأثر تلك المكونات"( ). وذكر أن الاتساع يرتبط بالدلالة لأنه عبارة عن إضافة بعض المفردات إلى التركيب الأساسي مما يؤدي إلى تحديده وبيان المقصود منه"( ). وهذا المفهوم يلتقي مع ورد عند البلاغيين بمصطلح من "التوسيع" الذي قد يندرج ضمن مفهوم "التوسع".
وكان حسين المرصفي قد ذكر أن من فنون البديع" الاتساع" وعرفه بقوله:" هو أن يأتي المتكلم أثناء كلامه بما يحتمل أن يفسر بكثير من المعاني لصلاحه لكل منها"( ).
وتناولت المعجمات البلاغية والنقدية(التوسع) وميزت بينه وبين الاتساع، مكتفية بنقل بعض نصوص القدماء كما هي. ذكر بدوي طبانة :أن الاتساع "أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظم فيه، وبحسب ما تحتمله ألفاظه من المعاني"( )، وهو ما جاء عند ابن رشيق. وذكر التوسع, كما جاء عند ضياء الدين بن الأثير إذ سمى القسم الذي يكون فيه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه التوسع( ).
وفرق أحمد مطلوب, كذلك, بين الاتساع والتوسع، وذكر تعريف ابن رشيق والمصري والسبكي والحموي والسيوطي والمدني, وذكر أن هذه التعريفات ترجع إلى ما بدأه ابن رشيق وقرره المصري وهي تشير إلى أن الاتساع يشمل الشعر والنثر( ). وذكر التوسع كما جاء عند الجاحظ دون أن يذكر مفهوم المصطلح واكتفى بنقل الأمثلة والنصوص كما هي، وأشار إلى دلالات أخرى عند الزركشي مثل الاستدلال بالنظر في الملكوت, والتوسع في ترادف الصفات, والتوسع في الذم، وذكر أن السبكي سماه "التوسع" وهو أن يأتي في آخر الكلام بشيء مفسر بمعطوف ومعطوف عليه( ).
وعرض للاتساع في "معجم النقد العربي القديم، فكرر ما جاء في معجم المصطلحات البلاغية وأضاف إليه أن ابن جني قد سمى هذا الفن توجه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين، وذكر أن باب الاتساع واسع يجول فيه النقاد والمفسرون ويتأولون الكلام, وفي ذلك حرية عظيمة وتفنن في القول"( ).
وأشارت إنعام عكاوي إلى الاتساع والتوسع, وكررت ما جاء عند بدوي طبانة وأحمد مطلوب( ).
ورأى حسين الواد أن "الشعراء, محمولين بقوة الإبداع, كثيرا ما تضيف أمامهم العبارة ويضحي اللفظ عاجزا عن الأدلاء منقطعا عن القدرة على التعبير, فيطلبون ما أصطلح عليه بالتوسع. وهو, عند التأمل, مصطلح رحب وغامض قابل لأن يمتلىء بأي شيء, ويعسر الاستدلال فيه بالبرهان القاطع"( ).
ووقف إحسان صادق سعيد عند التوسع في معرض حديثه عن الخصائص التي تبرز رجحان اللغة العربية على غيرها من اللغات, من منظور النقاد العرب، وذكر من دلالات التوسع كثرة المفردات اللغوية وانفساح المجال التعبيري أمام المتكلم من جهة شيوع الألفاظ المترادفة في دلالتها، ومنها كثرة وجوه المجاز وأبوابه في اللغة العربية، ورأى أن الدائرة الفسيحة لمفهوم "الاتساع" قد تقلصت عند ابن الأثير فصارت الكلمة مصطلحاً دقيقاً يشير إلى نوع خاص من المجاز وليس إلى أنواعه كما كان عليه الحال من قبل. إذ جعله خاصاً بما إذا لم تكن بين المنقول والمنقول إليه مشاركة في صفة من الصفات. وأشار إلى وجه آخر للاتساع وهو "بمعنى قابلية اللغة العربية لوجوه التصرف والإعراب والتفنن في طرائق التعبير وأساليبه، كالحذف والاختصار، والزيادة في حروف الاسم والفعل والتكرير ومخاطبة الواحد بصفة الجمع وغير ذلك"( ). وهذه الدلالات وغيرها سنجد تفصيلها في ثنايا البحث باستفاضة.
البلاغة العربية لم تكن بعيدة عن هذا الفضاء النقدي المعاصر، لا سيما من خلال مقولة التوسع التي هي في الأساس إبداع باللغة، و"إذا كان كل شيء في النقد الحديث والمعاصر يشير في اتجاه اللغة, فقد كان كل شيء في البلاغة العربية يشير أيضا في اتجاه اللغة. ويكفي القارئ أن يتوقف عند عبد القاهر الجرجاني وحده ليدرك ذلك الانشغال شبه المطلق بكيف تقوم اللغة بالدلالة من ناحية، وماهية الدلالة أو المعنى الذي تدل عليه تلك اللغة من ناحية أخرى"( ).
هذا هو الفضاء النقدي الذي يدور في فلكه مفهوم "التوسع" وهو ما يمثل المرجعية النقدية التي نطل من خلالها على مفهوم التوسع في الموروث البلاغي والنقدي وحري بالإشارة أن البحث يؤمن بتداخل موضوعات اللغة والنحو والبلاغة والنقد وأن العلاقة بينها تكاملية، وأن مسألة تصنيف العلماء ضمن بيئة النقاد أو البلاغيين أو اللغويين أوالنحاة مسألة نسبية لم تعد تقرها الدراسات الحديثة، فقد أشار مصطفى ناصف الى أننا: "فصلنا بين كلمة النقد وكلمة البلاغة فصلاً لا يخلو من تعسف وواضح أن البلاغة تصور عمق النقد العربي وفلسفته"( ).
منقول للأمانة...
سلااااااااامي للجميع ...
لا تنسوني من دعاءكم…
و في الختاام تقبلوا تحياات Dz.SniperChafik.Dz