تسكن
" مآساة " بنت الثامنة عشر ربيعا في أحد الأحياء الفقيرة التي أكل عليها الدهر وشرب ...
انها فتاة يتيمة نهشت مخالب الدهر من سعادتها وشبابها بعد ان كسرت ساعديها بأخذ أباها وأمها ، لقد أتقنت لغة اليأس ، والقنوط ، كيف لا وقد تربت دون أب وأم فكانت تتكلم دوما بالسكينة عن انسحاق قلبها الضعيف ...
الا ان هذه الحياة الحزينة لم تنمع
" مآساة " من العمل و الجري وراء قوتها ، فكانت نعم الفتاة ، فكانت مثالا للأخلاق الفاضلة ، فجمالها وجمال اخلاقها ينبعث منها كأشعة الشمس الذهبية التي تلامس الشبابيك ، و الحقول، وحدائق الأقحوان ، و الورود ...
تعمل
" مآساة " لدى احدى العائلات الثرية التي تسكن بأحد الأحياء الراقية الموجودة في تلك المدينة ...
كانت سعيدة جدا وهي تؤدي عملها على أكمل وجه الى ان استيقظت ذات يوم ، والدموع تراود أجفانها البريئة معلنة للجميع انسحاق قلبها المسكين الذي خدعه ذلك
الذئب العجوز صاحب القصر لقد غرز جميع أنيابه بشرف المسكينة بعد أن أطعمها ذلك الخبز الممزوج بالخبث، و سقاها بالماء الممزوج بالذل و الغدر، أجل لقد نال منها بعد أن وعدها بطيب العيش، و انقاذها من عبودية الفقر...
حتى مالت اليه نفسها البريئة.
لتجد نفسها تتعذب ، وتثمل من كؤوس الغدر ، و الكذب، أجل لقد نال من البريئة التي كانت تخدمه بكل اخلاص و ود فقط لتنال قوتها اليومي ...
لقد أسرت
" مآساة " اليوم في غياهب الظلمة و الأحزان ، في غياهب الكآبة الخرساء، في غياهب السم والعلقم...
أجل لقد طالبت بحقها ، وبحثت عمن ينصفها ولكن للأسف لا حياة لمن تنادي فهل يقف الفقر أمام الغنى؟؟
لقد استسلمت لقدرها وغادرت القصر...
طال الصراع ومرت الأيام حتى أحاطت بها لحظات المخاض.
انها المصيبة التي عذبت
" مآساة " في الدنيا قبل الآخرة ـ لقد بدأت تسأل نفسها ماذا أقول للجنين الذي بين احشائي اذا سأل عن والده؟؟ـ
اشتد الألم ...
تنهدت " مآساة " و قالت: فعلا أنا اسم على مسمى فمصائبي لا تنتهي...
ثم حجبت وجهها السقيم بكفيها وصرخت صرخة خرساء علها ترتاح من هذه المصيبة التي سجنت قلبها الجريح في عالم اليأس و النواح ، أجل فالدموع لا تتوقف ابدا ولم تفارق أجفانها مذ ولدت ...
و ما هي الا لحظات حتى كسر ذلك الصوت العذب قيود واسوار السكينة التي كانت تحيط بالمكان ها قد رزقت
" مآساة " بمآساة اخرى ...
ولكنها كانت فتاة رائعة ، فالجمال ينبعث من وجهها كنسائم الفجر، فنور وجهها ينير الغرفة كأنها قمر صغير .
لقد فرحت
" مآساة " بهذه الفتاة الجميلة وهي تسمع نغمة صوتها الرخيمة ، كأنه فصل الربيع الذي يحل على الطبيعة الميتة فيبعث فيها الحياة من جديد.
مرت الأعوام و كبرت
" دمعة " فكانت فتاة جميلة تتغنى بها الطبيعة ، و جاءت اللحظة التي ـ انها لحظة البحث عن الحقيقةـ
و في يوم من ايام الربيع الرائعة استيقظت
" مآساة " على أسئلة ابنتها
" دمعة " "دمعة": لقد اشتقت لي أبي يا أمي فاين هو؟
أحست
مآساة بقلبها يتوقف وهي تتلقى هذه الأسئلة المحرقة من ابنتها .
قالت الأم : لقد مات أبوك يا ابنتي...
حزنت الفتاة كثيرا وهي تتلقى هذا الجواب القاسي على قلبها الصغير...
قالت الفتاة: أيمكن لنا زيارة قبره يا أمي؟؟
لأضع عليه باقة من الأزهار و الورود.
ردت الأم بلهجة يملئها الغضب و الحسرة : لا لا يمكن ، لا يمكن ...
استغربت الفتاة " دمعة " و قالت: لماذا يا أمي؟
نظرت الأم " مآساة " بعيني ابنتها البريئتين ، ثم تنهدت تنهيدة محرقة ثم حولت وجهها عن ابنتها الصغيرة و
قالت: تحدث نفسها لابد من اخبارها بالحقيقة حتى وان كانت علقما على قلبها المسكين ...
و ما هي الا لحظات حتى وجدت
" مآساة " نفسها تسبح في اعماقها بحثا عن كلمة تفك اسر لسانها.
وبعد هنيهة تشجعت
" مآساة " و قالت: يا دمعة انها مشيئة الله أن اخدع و يزج بي في عالم الذئاب البشرية التي تجعل من أحلامنا كوابيسا تطاردنا أينما ذهبنا، أجل قدرنا ان نعانق أرواح اليأس، والقنوط، و نضم اشباح الفقر الى احضاننا دون افتراق ...
قدرنا يا ابنتي ان نسجن بين جدران الوحدة ، والظلمة ...
وما هي الا لحظات قصيرة حتى انفجرت
" دمعة " بسيل جارف من الدموع الحارقة لترتمي بين احضان امها النحيلة ، حتى عمت السكينة ذلك الكوخ المهجور الذي تأبى ان تسكنه الغربان.
مرت الأعوام و الأحزان لا تفارق هذا الكوخ الصغير الذي مزقت الرياح الشديدة جدرانه الهشة بأنغامها المخيفة التي تكسر تماسك السكينة .
وفي أحد الأيام استيقضت
" دمعة " على صراخ قوي يهز شقف الكوخ الى السحاب انها
امها " مآساة " : تستغيث بصراخ اليأس من هذه الحياة اللئيمة تصرخ الأم و تئن كأنها تحتضر...
احتارت بنت الستة عشرة ربيعا
" دمعة "بعد ان عم صراخ ونداء امها السقيمة المكان ،
فقالت: البنت بلهجة الواثقة من نفسها لا تقلقي با امي سأحضر لك الطبيب ...
ابتسمت الأم و الألم يمزق قلبها اربا اربا ...
خرجت الفتاة بحثا عن طبيب يداوي أمها السقيمة ، الا انها لم تفلح في احضار الطبيب لأن الدراهم التي كانت معها لا تكفيها...
ترجت
" دمعة " الطبيب و لكنه أصر على عدم القدوم ، بعد أن خلع ثوب الرحمة ، واخلاق المهنة الشريفة ليعلن للجميع ولاءه للأموال.
عادت
" دمعة " في المساء وعواصف اليأس و الدموع تفتك بروحها الضعيفة ، أجل لقد اسرت هذه الفتاة البريئة في غياهب الدموع مذ ولدت .
بينما كان والدها " الأسود " يعيش في قصره عيشة الملوك الذين يتمتعون بخيرات الفقراء والمساكين ، مستطبين الخبز المعجون بعرق جبينهم، و دموع اجفانهم البريئة ، متلذذين بأخذ سعادتهم ، وشرفهم ، و سحق قوبهم ...
نعم هو كذلك يعيش عيشة الملوك ...
بينما
" دمعة " و
" مآساة " تجنيان الألم والحسرة ، المرض و الدموع ، الجوع والعطش ، البرد ، هم كذلك يخدعون الفتيات لإشباع غرائزهم الحيوانية ،...
تستمر مآساة هاتين المرأتين البرئتين ...
و بعد ساعات من المشي و صلت
" دمعة " الى البيت فكانت الفاجعة لقد وجدت أمها تفترش الأرض ...
لقد ماتت المسكينة لقد ارتاحت روحها من هذه الحياة المرة ...
ولكن قلب تلك الفتاة الصغيرة تحطم ، فكل كلمات التعزية لن تفك اسره لقد ولدت في الحزن و عاشت في الحزن و ستقبر معه ، لقد جعلت الذئاب البشرية هاته الفتاة تتجرع من كؤوس الموت في الحياة ، لقد ماتت
" مآساة " دون أن تتناول تلك الأعشاب التي ابتاعتها
" دمعة " من سوق المدينة .
تبكي
" دمعة " و تنوح بأعلى صوت ، وبعد سكينة من التنهيدات رفعت
" دمعة " رأسها و قالت: ما أتعس و أشقى الفتى / الفتاة التي ترى نور الحياة دون أب يظللها بقوته، بعطفه وحبه، برجولته ...
و لكن الأتعس ان تستيقظ المرأة العفيفة لتجد نفسها تنزف بعد ان فتكت بها الذئاب البشرية ، ونالت من شرفها ثم رمتها في الطريق لتتفرج عليها كل أعين العالم ...
وما ان اكملت
" دمعة " كلماتها الحزينة حتى لفضت أنفاسها لقد توقف قلب الفتاة المسكينة ...
بعد معاناة كبيرة ...
لتقبر مع
امها في قبر واحد في
مقبرة البراءةهذه القصة خيالية لكنها تبقى من واقعنا المرير ...
مؤسف جدا ان تسرد مثل هذه القصص في عالم اسلامي ...
سلااااااااامي للجميع ...
و في الختاام تقبلوو تحياات chafik.dz