سباغيتي لدكتور السعيد بوطاجين

سباغيتي

لأستاذي الفاضل: الدكتور السعيد بوطاجين

عندما جاء عبد الرحمن جيلي، الشاعر السوداني الشهير، للتدريس بجامعة الجزائر اكتشفنا فيه الفنان والأكاديمي والعالم والمنفي، كان شخصا غريبا واستثنائيا جدا، وكان جسده بؤرة للأمراض الكثيرة التي أثقلت كاهله.

لكن الرجل ظل ينكت إلى أواخر أيامه، لقد تغلب على بؤس الغربة والعزلة بالنكتة العابثة، بالشعر، وبحضورنا، ولو أنه لم يكن يفهم كثيرا ما يقال له هنا وهناك، خاصة في الشهور الأولى من مجيئه من موسكو.

قال لنا مرة، هو الذي أحب بلدنا وأحببناه: عندما خلق الله السوفييت قال لهم تكلموا بالروسية، ولما خلق الأمريكان قال لهم تكلموا بالإنجليزية، ولما خلق الفرنسيين قال لهم تكلموا بالفرنسية، ولما خلق الجزائريين قال لهم تكلموا كما شئتم.

قال ما يشبه النكتة بطريقته الهزلية المثيرة، وكنا نعرف أنه كان يعاني من الإدارات التي لا يفهمها، من المؤسسات ومن الجامعة والداكاكين والشارع.

لقد لخص المشكلة اللسانية في البلد بطريقته، وهي من أحسن الطرق التي لن تصل إليها الدراسات اللسانية والاجتماعية والنفسانية والإناسية التي بربطة عنق وقبعة، وهناك دراسات تشمر على عيونها كي لا تبصر شيئا.

نحن نتكلم كما نريد، كيفما اتفق: المهم أن نفتح أفواهنا ونقول شيئا ما، جملا عبارة عن سباغيتي، ما يشبه الجعجعة. تشبه طريقة حديثنا مكونات القمامة التي نعثر فيها على كل المواد بداية من العلب، مرورا بالورق والأكياس والخشب والطماطم الفاسدة والخبز اليابس والمجوهرات الضائعة.

تكلموا كما شئتم معناها: خربشوا، أو قوموا بصناعة خليط من اللغات التي لا أحد يفهمها، لغة ثالثة أو رابعة أو عاشرة تكون بديلة للسان المعياري الذي تحكمه معايير دولية متفق عليها نحويا وصرفيا.

الشارع الجزائري لا هوية لغوية له. كلمة بالفرنسية وأخرى بالعربية وثالثة بالأمازيغية ورابعة مقلوبة وخامسة بلغة أجنبية مشقوفة، وهكذا. والواقع أننا معجبون بهذه الفسيفساء المخجلة التي ننعم فيها آمنين مطمئنين، بل إننا نفاخر الآخرين بهذا المكسب الذي يضاف إلى احتياطات النقط والجريمة، وليس مستبعدا أن تصبح دار جدنا عما قريب لغة عالمية تحل محل الإنجليزية والألمانية والروسية واليابانية، أي لغة بحث لا غنى عنها ما دامت في تطور مستمر.

من المؤسف حقا أن ينتقل هذا الشكل إلى الأجهزة الإعلامية الرسمية وإلى المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية التي أصبحت تلقن فن السباغيتي، حتى أعلى الهيئات تتكلم السباغيتي.

ثمة جهل باللغة لا يمكن نكرانه، وهناك تخطيط لجعلنا بلا مرجعية لسانية نتكئ عليها في أوقات المسغبة، إلا أننا نسند ذلك باستمرار إلى فرنسا، أخطاء الجزائريين تسببت فيها فرنسا الاستعمارية، وأمراض البلاد مردها فرنسا، بما في ذلك السعال والاختلاسات: فرنسا هي سبب نقص السردين والعدس، فرنسا هي المتسبب الأول في تهجير الأدمغة وتكديس القمامات في كل مكان، إنها وراء حفر الأرصفة والمدن وانعدام الأمن وكثرة الانتحارات.

المهم: يجب محاربة فرنسا في باريس وتعليمها الطريقة التي نتكلم بها في الشارع والإذاعة والتلفاز والمؤسسات التعليمية والمجالس الوطنية، وعلينا أن نتصور المسؤولين الفرنسيين يتكلمون عصيدة أو عجينة مثلما نفعل نحن بفخر واعتزاز وتضخيم مرضي للوطنية العليلة.

بعد خمسين سنة من الاستقلال وصلنا إلى التلعثم الأعظم بسبب التواجد الفرنسي في نفوسنا وفي أجهزتنا، لهذا يلزمنا غربال أو مصفاة لمعرفة الأسباب الحقيقية التي نخرت هويتنا.

هناك في هذه الدنيا أمم غزت الفضاء بعد سنوات قليلة من تحقيق استقلالها، وهناك شعوب استرجعت زمام أمورها في زمن قياسي، ولا داعي لذكرها، وهناك بلدان أصبحت نموذجا للعمران بعد الخروج السريع من خرابها العام على يد الأعداء والحلفاء.

أما نحن فما زالت فرنسا تفرض علينا طريقة النطق وشكل الكلام، تضغط علينا بالسلاح الفتاك، والأسلحة المحرّمة دوليا كي نتعامل مع اللغة بهذه الطريقة البائسة التي لا تشرف حاضرنا.

مازالت تضغط على مسؤولينا لاحترام التأتأة والفأفأة، لخلط الزلابية مع الفول والموز والقصدير والسجائر والطلاء والجزر والقماش والورق، ونسمي هذا لغة.

يطل عليك وجه من التلفاز ويقول أي شيء بأي شيء: لا تعرف إن كان عربيا أم أعجميا أم مواطنا أم أجنبيا. هل دخل المدرسة أم وصل إلى ما وصل إليه بالغش والرشوة.

لا أدري لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها ونسند حماقاتنا إلى الغير، نبرر عجزنا وإخفاقاتنا وضياعنا وضعف شخصيتنا وفشلنا بأرضية الملعب والتحكيم والحرارة والرطوبة ونقص التدريب والاستعمار الغاشم لعنه الله ولعن أتباعه وتلامذه ومريديه.

ربّ يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني ولا تجعلني غريبا أو أجنبيا في بيتي. الرحمة على الشاعر الدكتور عبد الرحمن جيلي، والشلام عليكم وعلى شيدنا المشطفى عليه الشلاة والشلام. ؟

السعيد بوطاجين

و في الختاام تقبلوو تحياات

chafik.dz